دعونا نعود الى المقدمات الاساسية:
المقدمة الاولى: ان السياسية هي فن رعاية مصالح الناس، بوصفهم احرارا متساوين عقلاء، بطريقة علمية، حضارية، حديثة.
المقدمة الثانية: ان الاحزاب عبارة عن تجمعات يؤسسها اشخاص لهم رؤية موحدة او متقاربة في طريقة رعاية الناس، وان هدفهم الوصول الى الحكم او المشاركة فيه لتحقيق هذه الرؤية او قسم منها حسب الشروط والظروف القائمة. ودلت التجربة على ان وجود احزاب ذات رؤية خاصة لرعاية مصالح الناس امر ضروري لاقامة حياة سياسية ديمقراطية سليمة.
المقدمة الثالثة: انه ليس من المتوقع ان توجد رؤية واحدة، ومن غير المعقول ان يوجد عدد كبير جدا من الرؤى المختلفة. وبالتالي ليس من المفروض ان يوجد حزب واحد، وليس من العملي ان يوجد عدد كبير جدا من الاحزاب. وعليه لابد من التوصل الى عدد مناسب ومعقول من الاحزاب بشرط ان يحمل كل حزب منها رؤية لرعاية مصالح الناس تختلف بمقدار ملموس عن رؤية الاحزاب الاخرى، وبشرط ان تمثل هذه الرؤية قناعة عدد معتد به من الناس.
المقدمة الرابعة: وبسبب هذا الاختلاف او التباين في الرؤى الخاصة لرعاية مصالح الناس لجأت البشرية بعد طول مخاض الى طريقة الانتخاب لتفضيل رؤية ما على غيرها. ويجب ان يكون هذا التفضيل معبرا وممثلا عن رأي اغلبية الناس، وليس خاصة بفئة محدودة العدد. ومن هنا جاء القول بان الديمقراطية هي حكم الاغلبية، فهي تعبير عن تحكيم رؤية معينة لرعاية مصالح الناس قبلتها اغلبية الناس. وليس صحيحا هنا استشهاد بعض الاسلاميين بالاية القرانية القائلة:”لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ”. وذلك لامرين؛ اولهما ان الاية تتحدث عن الحق مقابل الباطل، ونحن هنا لسنا بهذا الصدد، فليس بين الرؤى المختلفة لرعاية مصالح الناس حق او باطل، انما حسن او احسن، وثانيهما ان الاية تتحدث عن مشركي العرب، وخاصة اهل مكة، الذين رفضوا في البداية دعوة الحق التي جاء بها الرسول (ص).
ولاسباب موضوعية اتفقت المجتمعات البشرية الحضارية على خوض الانتخابات بصورة دورية. وهذا جزء اساسي في التعريف الاجرائي للديمقراطية بانها منظومة اليات محايدة لتداول السلطة سلميا بصورة دورية عن طريق الانتخابات، وبانها ترتيب مؤسساتي لاتخاذ القرارات بصورة معبرة عن خيارات الاكثرية بعد النقاش الكافي داخل المؤسسات الدستورية والمحافل المدنية ووسائل الاعلام فيما يسمى بالديمقراطية التداولية deliberative democracy.
ويفترض ان تنتج هذه الانتخابات عددا محدودا من الاحزاب التي سوف تمثل في البرلمان (وهذا هو وحده الاستحقاق الانتخابي) على ان يملك احدها اغلبية المقاعد النيابية ليتاح له تولي الحكم، ويكون رئيسه هو رئيس الحكومة، كما في بعض الانظمة الديمقراطية المعاصرة.
ولا يحصل هذا في مجتمع سياسي ذي عدد مبالغ به من الاحزاب، كما في العراق، فتكون النتيجة، كما في كل الانتخابات السابقة، برلمانا فسيفسائيا بعدد كبير من الاحزاب المجهرية او الصغيرة او الصغيرة جدا او المتوسطة، وليس بينها حزب واحد كبير يملك الاغلبية المطلقة في البرلمان.
كنت دعوت في وقت سابق الى ثلاثة امور مترابطة هي: اولهما، تشريع قانون الانتخاب الفردي، وثانيهما حل البرلمان، وثالثهما اجراء الانتخابات المبكرة. وذلك على امل حصول تغيير جذري في الخارطة السياسية. ولكن للاسف لم يحصل التغيير لسبب اساسي وهو الكثرة المفرطة في عدد الاحزاب المتنافسة، الامر الذي لم يعالجه قانونا الانتخابات والاحزاب، وبالتالي عدم ظهور كتلة برلمانية تملك الاغلبية المطلقة.
اليوم تعود الدعوة الى اجراء الانتخابات المبكرة. وهي دعوة فارغة لانها لن تنتج التغيير المأمول ما دام الاطار القانوني والبيئة السياسية هي نفسها لم تتغير. لا ضرورة للانتخابات المبكرة لكن الضرورة تستدعي تشريع قوانين متشددة تمنع التشرذم الحزبي وتؤدي الى تقليص عددها الى اقل عدد ممكن موضوعيا ومن ثم اجراء الانتخابات في موعدها المقرر على ان يسبق ذلك تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات حيث ليس من الصحيح ان تتولى ذلك حكومة مستقيلة منتهية الولاية ومنقوصة الصلاحيات.