لا تخف من ذاكرة البلاد الغارقة في نفق
الانكسار
بل كن قريباً من دفاتر الرعاة
و صياح الباعة المتجولين
و صراخ أطفال الشوارع…
كن بعيدا عن صمت الحياد
و اخضرار العشب قبل الغروب..
لست وحدك هنا
الكل يسال عن ورقات الرحيل
و انفتاح المرء على فضاءات
الدهشة….
انت الآن هنا
وحيد مثل زقاق قديم
يبحث عن رفاق ضاعوا في الطريق…..
ربما كانوا فرادى أو جماعات
ذاهلين
و سابحين بأبصارهم في الفيافي
ليس لهم في ورقات الزمان
ما تقوله الآهات
وما تبطنه الروح
بالأمس صباحا باغتني الولد الكسيح
بالسؤال:
لماذا كل هذا الهروب من صمت الحياد؟
و ارتباك الأصابع حين تلمس جمرات
النهوض…
ليس بإمكانك ان تنام وحيداً
قرب الزقاق المتاخم للضباب
ها هنا نساء شاحبات
و أولاد يبحثون عن اسماءهم
في الخراب
كل صباح يباغتني بالعناق و زهرة اللوتس
على طاولة الذكريات
الآن تكتب الايادي ورقات الاحتجاج
لا تخف من ذاكرة البلاد الغارقة في نفق
الانكسار
كن قريبا من دفاتر الرعاة
و صياح أطفال الشوارع
كن بعيدا عن صمت الحياد
و باحثا عن غروب الزمان
ها هنا جدار الاجداد و متاهة
الاحفاد
كأني بهم يستعجلون الرحيل
و تأخذهم خطاهم إلى البيادر
بلا مدد أو سند
فجأة يصيح الفتى في الجموع:
خراب هذا أم بلد؟!
لست ادري.. يجيب شيخ هارب من ضباب
المرحلة
ربما قطعة من عاصفة الجنوب…
ماسكا بأحلامه قبل الغروب
تراه النساء الشاحبات
لا تهمه اخبار الفنادق
و ما تكتبه تقارير الحرس القديم…
هو العاشق دوما للفيافي و الروابي
هو الهارب من ضجيج العواصم
و احتماء الثكالى بالصقيع
ليس في الاقاليم البعيدة ما تترقبه الروح
و ليس في المسافات القريبة عشاق
الغنيمة…!
هنا أولاد و أحفاد و موسيقى
هنا ذاكرة الاجداد و متاهة الاحفاد
على الطرف الآخر من المكان البهي
ورقات يتيمة
و أصوات خارج الاسوار
قبل غروب الشمس ٫يصيح الفتى في الجموع:
لابد لي من حبر و جمر و نساء ذاهلات
لابد لي من ذاكرة عصية عن النسيان
ترسخ آخر ما تبقى من الحصون….
ليس لي ما ادعي ما ليس لي
سوى ان الكلام المسافر إلى الأقاصي
هو دربي و بوصلة الهاربين من ضباب
المرحلة…..
إذا ما تم ذكر الرحيل تعين علينا ذكر الرحلة ، والرحلة في نص الشاعر التونسي البشير عبيد في نصه الجميل الرحيل الي بهاء المكان تبدأ في الانطلاق من نقطة اطلق عليها التعبير بالوصف البلاد الغارقة في نفق الانكسار لتنتهي الرحلة عند مكان يصفه النص بالمكان البهي ، والمسافة بين الانكسار والبهاء تقطعها علامات التواصل داخل محيط النص
” لست وحدك هنا
الكل يسال عن ورقات الرحيل
و انفتاح المرء على فضاءات
الدهشة…. ”
ولا يهمنا في هذا الصدد سوي متابعة النص في وصف الرحلة وفي بيان آليات الرحيل ورفاق الرحلة وطبيعة الأمكنة .
والانفتاح فعل يتصل بالرحابة والاتساع ، وتقدير حالات الاتساع يوجب التطلع الي ما اسماه النص بفضاءات الدهشة ، فالاتساع والرحابة والفضاء هو المقابل لوصف الشكل المناظر لطبيعة المكان الذي بدأت منه رحلة الانطلاق . من البلاد الغارقة في نفق الانكسار : الضيق والانكماش والقصر وضيق الارض ، وبذلك تتحدد الدلالات وفقا للمنظور العكسي لصفات الرحابة والاتساع ، ولكن التفرقة بمعيار المساحة قد تكون مضللة ، فلا يلزمنا عندئذ سوي النظر لمحتويات الصفات التي استلزمها فعل الانكسار وفقا لبلاغة استخدام المجاز وتنوعه بين الضيق والاتساع ، والانكسار والبهاء ، وما يعنيه ضيق النفق من دلالات يشير الي وجود خطب عسير ، ولتصبح الرحابة مجرد فضاء يستوجب إقرار وترسيخ معني الإنفراجه .
والمعية في الرحلة كما يوحي بها المقطع السابق تتحدد وفق ضوابط في مقابل الوحدة ، وهتك استار الوحدة بالمعية يستوعب طرح اسئلة عن قوافل الرحيل ، وعن موعد الرحلة ومكانها وآليات وجودها
” انت الآن هنا
وحيد مثل زقاق قديم
يبحث عن رفاق ضاعوا في الطريق…..
ربما كانوا فرادى أو جماعات
ذاهلين
و سابحين بأبصارهم في الفيافي ”
وتعكس الصورة الموازية لتناقضات حالتي الوحدة والمعية ذلك الفارق بين الفيافي والزقاق القديم ، وهو تناقض في الاتساع وضيق الأرض وفقا لحجم المساحة ، ووجود أزمة وانفراجها طبقا لمضمون المجاز ، تماما كما يمثل التناقض ذلك الفارق الحصري بين الفرد والجماعة
” بالأمس صباحا باغتني الولد الكسيح
بالسؤال:
لماذا كل هذا الهروب من صمت الحياد؟
و ارتباك الأصابع حين تلمس جمرات
النهوض… ”
ان اسئلة كهذه يطرحها الكسيح بغية الافادة عن علة القول بصمت الحياد ، لتصبح التعبير الأكثر مواءمة عن شلل القدرة علي التفاعل مع الأحداث الجارية في البلاد ، والسكوت عن الافصاح يعادل داخل النص الافصاح والهروب عن صمت السكوت ، والسؤال عن العلة في ذلك يتناسق مع تعبيرات تعتني بوجود نوع من الرهبة والقلق عندما تضع الأيدي اصابعها فوق جمرات النهوض (النهوض وفقا لمضامين متعددة كالوقوف علي الاقدام بعد السقوط او حدوث النهضة بمفهومها الاستراتيجي )، وهو سؤال مرحلي يضع استفساراته عن الأزمة الراهنة في البلاد ، وقد تكون تلك الأزمة بمحتوياتها المستترة تعبيرا مباشرا عن ازمة سياسية او اجتماعية او اقتصادية ، ويصبح التطرق الي تفصيلاتها بمثابة وضع اصابع اليد فوق الجمر
” الآن تكتب الايادي ورقات الاحتجاج ”
فالتعبير عن الأزمة يأخذ صيغته الفردية والجماعية كصيغة يمليها رفض الأوضاع السارية ، ويدفع النص بأطروحته عبر مجموعة من افعال الأمر والنهي مبديا تفاؤله الحذر من سوء الاوضاع
” لا تخف من ذاكرة البلاد الغارقة في نفق
الانكسار
بل كن قريباً من دفاتر الرعاة
و صياح الباعة المتجولين
و صراخ أطفال الشوارع…
كن بعيدا عن صمت الحياد ”
لتصبح صورة الرعاة والباعة المتجولين واطفال الشوارع ايقونة المرحلة بطابعها البائس ، ويصبح الابتعاد عن صمت الحياد فريضة واجبة
” ها هنا جدار الاجداد و متاهة
الاحفاد
كأني بهم يستعجلون الرحيل
و تأخذهم خطاهم إلى البيادر
بلا مدد أو سند ”
يستخدم النص في كثافة الصور المحملة بالدلالات ، فهو يرسم طابع المرحلة بالاستعانة بتلك الصور ، والاستعانة بالمزيد من الكلمات الموحية للتصور ، فيصبحان – الصورة والتصور – هما السناد البلاغي في عمليات الخلق الفني ، فالجدار كحاجز واقي ، والذي ينتسب الي الأجداد يتآلف مع مضمون الصلابة والحماية ، بينما تظل الصورة المرافقة لمتاهة الأحفاد تشي بالكثير من التيه ، ومن ثم فرحلتهم الي البيادر والاتساع لن تصبح رحلة موفقة لانعدام المدد والسند والحليف المناصر
” فجأة يصيح الفتى في الجموع:
خراب هذا أم بلد؟!
لست ادري.. يجيب شيخ هارب من ضباب
المرحلة
ربما قطعة من عاصفة الجنوب ”
يكثف النص علاقة الفرد بالجماعة ، والكل ينضوي تحت رايات الرفض لما هو قائم بالضرورة ، ومظاهر الرفض في ترابط مع كتابة ورقات الاحتجاج ، والاحتجاج يضع علاماته في صورة سؤال استنكاري خراب هذا ام بلد ، والتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تقوم بوصم تحولات البلد الي خراب بوصمة الخزي ، والنص يوعز مظاهر الخزي بصورته الراهنة ال تجمع ضبابي لتلك المرحلة
” لا تهمه اخبار الفنادق
و ما تكتبه تقارير الحرس القديم…
هو العاشق دوما للفيافي و الروابي
هو الهارب من ضجيج العواصم
و احتماء الثكالى بالصقيع ”
والثائر الفرد واحد من جماعة الثوار يقيسه النص وفق مقاييس الخاصة :
لا تهمه تقارير الحرس القديم ، وتعبير الحرس القديم هو تعبير مشتق من الولاء للأنظمة القديمة حتي بعد زوالها , إنه الثائر العاشق للخروج من مأزق بلاد تغرق في نفق الانكسار ، والساعي الي طريق رحلة مزعومة الي براح الفيافي والبيادر والروابي الفسيحة
” قبل غروب الشمس ٫يصيح الفتى في الجموع:
لابد لي من حبر و جمر و نساء ذاهلات
لابد لي من ذاكرة عصية عن النسيان
ترسخ آخر ما تبقى من الحصون….
ليس لي ما ادعي ما ليس لي
سوى ان الكلام المسافر إلى الأقاصي
هو دربي و بوصلة الهاربين من ضباب
المرحلة….. ”
بدأت الرحلة منذ شروق الشمس وانتهت قيل الغروب ، وصورة الشروق والغروب توعزان الي بيان خط مسير الرحلة ، وبالأحرى فقد كانت رحلة عبر الزمن الممتد من الشروق الي الغروب ، ومن ثم فهي رحلة تداعي الافكار عبر الزمن المحدود ، ورابط الرحلة المحمل داخل النص يكثف وجود الحرس القديم ضمن المكونات الرئيسية للصورة ، اما عن الصورة بكامل هيئتها ، فهي الصورة الجامعة لنساء ثكالي ذاهلات ، وحصون في حاجة الي توثيق ما تبقي من وجودها ، وهذا يفسر احتياج الثائر العاشق لوطنه الي حبر للكتابة وجمر لإيقاد نيران الثورة لاجتياز ما اطلق النص عليه بضباب المرحلة

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *