(أحياءٌ) كلمةٌ مُحمَّلةٌ بالفاعلية والاستمرار، وهي تقابل (الأموات) وكأنها وردت لتنسف تخوف الإنسان من الموت، وتزيل ذلك التهيّب من ذكره، تبدد رائحته التي تباغتك حتی وأنت تتحدث عنه! وقد نهانا الله تعالی أن ننعت الشهداء الذين مضوا في سبيله بأنهم أموات!!
وألزمنا بحياتهم حين قال:((وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ )) سورة البقرة،الآية: ١٥٤
هكذا جاء السياق ناهيا( لاتقولوا)!!
لمن يارب؟ لمن يُقتل!!
أي أنهم أحياء، ونحن نحاورهم،فلم يرد السياق مثلا: لاتقولوا عن الذين قُتلوا في سبيل الله!
بل ورد بهذه الصيغة: لا تقولوا لمن يُقتل
وكأن هذه اللام اللصيقة بـالاسم الموصول (مَن) وقربها منه، هي عينها المسافة بيننا وبين الشهداء في هذه الحياة!!
وكذلك استعمال الاسم الموصول(من) الذي أضاف نوعا من السعة والشمول لجميع الشهداء، من عصر النص إلی عصرنا، ثم مجيء الفعل (يُقتل) المبني للمجهول، عضّد معنی الشمول والسعة، وأضاف إليهما تصورا عن تعدد طرق التضحية وتغير وسائلها بحسب الزمان والمكان والقضايا، وكذلك يعطينا معنی آخر، وهو أن التركيز هنا علی المقتول(الشهيد) وليس علی القاتل!! وهذا فيه تسلية لذوي الشهيد من جهة، وضمان من الله بأنه هو ولي الدم، وهو المنتقم من جهة أخری؛لهذا بُني الفعل للمجهول، فهو مجهول بالنسبة إلينا، وهيّن ومُحَاط به عند الله تعالی!!
فالله هو الضامن لحق الشهيد الذي مضی في سبيله، وهو حي،وقد أثبت السياق لهم الحياة باستعماله( بل) وكأنها جاءت كمطرقةٍ لتعدّل ما صدر من المتكلم الذي ينعت الشهداء بالأموات!! فتخيل قوة الضدية بين(أمواتٌ، أحياءٌ) وكأنها نسقٌ يركض بك سريعا ليصحح ويعبد الطريق، فحذف المبتدأ(هم) وأبقی الخبر(أمواتٌ)، وقلب الصورة التي فرضها الناس (المتكلمون) من الموت الی الحياة، بسرعةٍ وقوة، وحذف المبتدأ(هم) وأبقی الخبر(أحياء)!!
ولاحظ المد المتصل في كلمة (أحيااااااء) وكأنه مدٌّ في حياتهم، أو إعلان حياة ممتدة! فلا سبيل للسامع أن يتصور أنهم أموات بعد إعلان حياتهم(أحيااااااء)!!
وحياتم ثابتة بثبات الجمل الاسمية، ولكن لا تشعرون!! وقد جسد الفعل المضارع(تشعرون) استمرارية عدم شعورنا بحياتهم، تلك الحياة التي يحفظها الله عنا وعن الدنيا، فهي حياة علوية، لا إحباط فيها ولا انزلاق ولا تغير! فهم يرون مانراه، ويرون ما لانراه!!

إن حياة الشهداء مصدرٌ للأمان، للأنس، فالموت يوحش أغلب البشر، وهولاء الشهداء السعداء، مصدر أمان؛لأنهم أحياءٌ بأمر الحي القيوم!!
ثم تعالوا معي لنستذكر موقف ذلك الشاب العلوي الذي ضحی بنفسه في سبيل الله، إنه القاسم بن موسی بن جعفر(عليه السلام) حين هاجر فداء ً للإمام الرضا، وكان يبحث عن الأمان، ترُی أي البقاع ستكون له مصدر الأمان؟ وماهو الأمان الذي ينتظره؟
وحين دخل قرية( باخمری) في الحلة في العراق، سمع حوار فتاتينِ قرب الغدير، فقالت إحداهما مقسمة: لا وحق صاحب بيعة الغدير!!
فكان هذا القسم مفتاح الأمان للقاسم،فهذا البلد يحب الإمام علي ويواليه، وأهله من شيعة علي بن أبي طالب،إذن هو الأمان!! فحب محمد وآل محمد هو أمان ورعاية إلهية!!
وهكذا أيها القارئ، تخيل أنك تبحث عن الأمان،عن الحياة التي تناقض الموت!! أين ستجد ذلك؟
ستجده هنا، في العراق الذي جاد بهذه الأرواح،استبدل حياتهم الدنيوية بأخری علوية!!
استبدل الخوف والقلق بالأمان!! فأنت حين تقطع شارع القناة، تكاد تشعر بحياتهم، فوجوههم ترحب بك وتشع أمانا، وابتساماتهم طازجة، وأحلامهم محلقة حول صورهم!! وكأنهم يصافحونك وأحدا تلو الآخر، ومصافحتهم هذه، تشبه قسم تلك الفتاة، ابنة شيخ باخمری!! وبما أنهم مضوا من أجل كلمة الحق، وحركهم في ذلك إيمان راسخ، بصاحب بيعة الغدير، وملح راسٍ في دمائهم من هذه الأرض الطيبة، فهم مصدر أمانٍ للساكنين والقادمين، من لحظة استشهادهم الی ما لا نهاية!! وهذه ليست أمنية أو استنتاج،هذا قانون إلهي ، ثبته النص القرآني، فهم أحياء، ونحن لا نشعر بهم!!
ولكن صدقوني في شارع القناة، تكاد تشعر بهم!!
حيث هذه الصور التي تصافحك وتجود عليك بالأمان، ولاسيما في أيام عاشوراء، تشعر أنهم يحملون هذه الرايات الحسينية، وأنهم علی أهبة الاستعداد للخدمة الحسينية!! صحيح، أنهم شهداء وقد ضمن الله لهم الحياة الأبدية، ولكنهم يحنون لتلك الخدمة، يحنون لرؤية دموع الزائرين، يحنون لرؤية الملايين الذين يحجون إلی كربلاء!!
وكأنهم يقولون لنا: في هذه النقطة فقط، نتمنی أن نكون مثلكم! نتمنی أن نبقی علی قيد الخدمة الحسينية!!
وكأن الله لبی لهم، وحقق أمنيتهم، وجعلهم مصدر أمانٍ لزائري الإمام الحسين(ع)من كل بقاع العالم.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *