الذين تظاهروا امام مبنى مجلس القضاء مواطنون عراقيون، فهم جزء من “المكون الاول للدولة”، واعني به “الشعب”، كما هو معلوم.
والذين رفضوا هذا التصرف مواطنون عراقيون ايضا، فهم جزء من “المكون الاول للدولة”،اي “الشعب”.
(وهناك الاغلبية الصامتة الذين لم يتظاهروا ولم يعترضوا، وهم ايضا جزء من “المكون الاول للدولة”، اي الشعب”).
هذا يعني ان الشعب اضحى منقسما بشأن اهم موسسات الدولة وهي السلطة القضائية، بعد ان تم طرد السلطة التشريعية، واصابة السلطة التنفيذية بالشلل او التواطؤ.
ولا يجدي استبعاد اي طرف من عنوان “الشعب” لان جميع هذه الاطراف ومناصريها هم اجزاء من الشعب. علما ان هذه النزعة الاقصائية موجودة في العراق على الاقل منذ عام ١٩٥٨ ومارستها الاحزاب السياسية ضد بعضها البعض الامر الذي عمّق من الازمة السياسية التي يعاني منها العراق.
والاستبعاد لا يساعد على فهم ابعاد المشكلة والبحث عن حلول لها. والتبريرات التي يسوقها البعض لهذا الاستبعاد لا تنهض امام التحليل الموضوعي.
بناء على هذا قلنا ان الشعب منقسم بشأن القضاء. وهذا انقسام خطير، مهما قلنا واختلفت اراؤنا حول القضاء. ذلك ان القضاء يمثل اخر مرجعية يمكن ان يرجع اليها الناس لحل مشكلاتهم. فاذا اختلفوا بشأنه لم يبق الاّ “مرجعية واحدة (وهذا تعبير مجازي)، وهي مرجعية السلاح التي قد تلجأ اليها الاطراف المتنازعة لحل خلافاتهم. وهذا هو الانهيار الكبير.
الانقسام حول القضاء يعني ان المجتمع لا يملك قواعد اشتباك يضبط بها خلافاته وصراعاته. واذا فقد المجتمع قواعد الاشتباك حلت الفوضى واللانظام في الدولة والمجتمع. ذلك ان قواعد الاشتباك هي بمثابة كوابح تمنع المجتمع (او تحميه من) الانزلاق عن الطريق الصحيح. عادة تقوم المجتمعات المتحضرة التي من علامات تحضرها امتلاكها لقواعد اشتباك بلجم اية محاولة لخرق هذه القواعد والخروج عليها والتصدي الحازم بالطرق الاصولية والقانونية لمثل هذه المحاولات. اقرب محاولة من هذا النوع الى الذاكرة هي محاولة الرئيس الاميركي السابق ترامب التمرد على قواعد الاشتباك بدءاً من رفضه لنتائج الانتخابات وانتهاء بتشجيع مناصريه على احتلال رمز الديمقراطية الاميركية، اي مبنى الكونغرس. فقد تصدت الشرعية الدستورية والقانونية لهذه المحاولة وافشلتها.
يعاني مجتمعنا، وقد فقد العناصر الجوهرية لصفة التحضر من انعدام او ضعف قواعد الاشتباك. ولم تنجح الطبقة السياسية بعد عام ٢٠٠٣ بترسيخ قواعد اشتباك للمجتمع والدولة اللذين تصدت لقيادتهما. واذا كان الدستور يمثل القاعدة الكبرى في هذا الصدد، وبغض النظر عن ملاحظاته عليه، فانه كان اول ضحايا هذه الطبقة السياسية التي لم تلتزم به ولم تتقيد بتوقيتاته واجراءاته. وكان لهذا افدح الاضرار بمجمل الحياة السياسية في البلاد. واخيرا جاء القضاء الذي كاد يفقد استقلاليته بالضغوط التي يتعرض لها. وقد سمعت احدهم يقول ان التظاهر امام مجلس القضاء الاعلى هدفها الضغط عليه لكي يحل مجلس النواب. وهذا القول بحد ذاته كاشف عن سوء فهم (ولا اتحدث عن سوء نية) لدور القضاء واختصاصاته الدستورية وموقعه في الدولة والمجتمع.
بعد ان وصل المجتمع العراقي الى حالة الانسداد السياسي فانه يقف امام طريقين للخروج من هذه الحالة: اما هدم المعبد كله بمن حضر، او اعادة ترميمه واصلاحه وتأهيله. قرأتُ تعليقا للسيد مقتدى الصدر (وهو قوة شعبية لايمكن ولا يصح تجاهلها) يقول فيه ان هدفه اصلاح النظام السياسي وليس اسقاطه. وهذا يعني انه اختار الطريق الثاني. وفي هذه الحالة يجب الاتفاق على منظومة شاملة لقواعد الاشتباك يأتي في مقدمتها: علوية الدستور والالتزام له، واستقلالية القضاء، وتحريم اللجوء الى السلاح والعنف.