تماشيا مع الصخب الإعلامي المتعلق بالذكرى السنوية، لانطلاق مايسمى بحراك تشرين، صار ضروريا إستثمار تلك المساحة المتوفرة، لحرية التعبير عن الرأي حيال هذا الحدث.
أستذكر المدونون وبعض الإعلاميون تلك المناسبة، ولفتوا انتباه من لا تعنيه الظاهرة التشرينية، ولا يتبنى الخطاب الموجه بالضد منها، كما لا يؤمن بإطروحات المؤيدين لها.. هذا لسان كثير من الناس التي عبرت عن موقفها بشكل “لا مع ولا ضد” هذا الحراك منذ ولادته، إستشرافا منهم بما ستؤول إليه الأوضاع والحيثيات التي سبقته.
من المؤاخذات المحسوبة على الظاهرة التشرينية، حالة الأنانية التي تجسدت بمطالبة المتظاهرين بنسف الخارطة السياسية، فقط في مدن وسط وجنوب العراق، دون الأخذ بنظر الاعتبار ما يعانيه بقية الناس في المحافظات الغربية، ومدن إقليم كوردستان، وهذا مؤشر سلبي عليهم كونه يتناقض مع الشعارات التي رفعت طيلة أيام الحراك..
على المتابع المنصف البحث عن السبب في ذلك، فلربما هناك من الاحتمالات التي تكشف عن طبيعة الأوضاع، وتخلي مسؤولية المتظاهرين، وترفع عنهم تهمة الأنانية التي أشرنا اليها ربما من يدري!
احد تلك الاحتمالات هو رضا الجماهير وقناعتهم، بالواقع السياسي الممثل للمحافظات الغربية والإقليم، وبالتالي يكون الخروج للشوارع أمرا عبثيا لاجدوى منه، خصوصا حين تتصرف النخب الثقافية والسياسية والنقابية والشباب، بعقلانية حفاظا على المكتسبات التي جاءت أعقاب الاطاحة بنظام البعث..
ربما يكون هذا الاحتمال واقعيا اعتمادا على، الثقة التي حصلت عليها نفس الطبقة المتصدية في الانتخابات الماضية.. وله كثير من الجزئيات السلوكية التي تعتبر مصداقا على إثباته، منها التفاعل الإيجابي مع السيد محمد الحلبوسي، حين رفضت استقالته في جلسة الأربعاء، التي عقدت في مبنى البرلمان بعد اشهر من الانقطاع، وهو نقيض لما حصل في مدن الجنوب التي عبر بعض ابناءها عن رفضهم لترشيح السيد محمد شياع السوداني، الأمر الذي يعكس تمسك السنة والإكراد بممثليهم من جهة، رغم إنتماؤهم لنفس المرحلة السياسية، التي ينتقدها متظاهرو الشيعة، الذين عبروا عن رفضهم لممثلهم من جهة أخرى.
الإحتمال الثاني يتعلق بردات الفعل المتوقعة من سلطات الإقليم، والحكومات المحلية في المحافظات الغربية، والمعروف عنها تعاملها الصارم مع حالات التمرد على الواجهات الرسمية، كونها جاءت بأصوات غالبية الشعب في تلك المناطق، ولربما لهم الحجة في ذلك.. وبنفس الوقت نجد ان دراسة هذا الواقع تفضي لنتيجة، تحسب للطبقة السياسية الموجودة في المناطق الشيعية، التي وجدت نفسها في وضع لا تحسد عليه، فهي بين فرض هيبة الدولة والحفاظ على ممتلكاتها، وهذا يستدعي المواجهة بحزم مع المجاميع التي لا تستمع لصوت العقل والحكمة، وبين التضحية بالدوائر والمؤسسات الرسمية ومقار الأحزاب، كون ذلك أهون الشرين، ولعله يحقن دماء أريد لها ان تراق في جزء من مساحة الوطن، والمحافظة عليها في أجزاء أخرى!
بعض “الشراذم” التي تحسب على ثوار تشرين، تمادت في ممارساتها التي وصفت بانها “حرية تعبير” وما إكتفت بحرق المباني الحكومية والمقار الحزبية، بل عمدت الى ممارسة هوايتها في سحل الجثث والتمثيل بها..
من المؤاخذات التي سجلت على الحراك التشريني، هو الإدعاء غير الواقعي بتمثيلهم للشعب العراقي، وهذا غير صحيح بملاحظة حالة الانسجام التي ذكرت سابقا، بين الجماهير وممثليها في المساحة الكردية والسنية، ناهيك عن الأغلبية الرافضة للإنخراط في هذا الحراك المشبوه، من قبل جماهير الوسط والجنوب، وهو ماعكسته لغة الأرقام في الانتخابات السابقة، بالرغم من تدني نسب المشاركة والشكوك التي تحوم حول نتائجها، إلا أن ذلك يشير لوجود شريحة من الناس تؤيد المسميات التي تتعرض لهجمة شديدة من المتظاهرين..
بغض النظر عن الإختلاف في الميول والولاءات الحزبية، إلا أن جمهور الأحزاب التي يرفضها التشرينيون، هم جماهير عراقية ويفترض بأن لهم ما لغيرهم، من حق حرية التعبير والإختيار والفكر والمعتقد.. وهو ما لا أثر له في خطابات التشرينيين، والمنصات الإعلامية الداعمة لهم، أو بعض الجهات التي تتعامل بمزاجية مع حركة تشرين، وجعلوا منها حليفا عند الحاجة وتقتضيه المصلحة.
كذلك فشل التشرينيون في توحيد صفوفهم، واخفقوا في إختيار من يمثلهم في المعادلة السياسية، ناهيك عن تناقض المواقف في أداء بعض من حالفه الحظ وتمكن من الوصول لقبة البرلمان، فعبر عن إيمانه بالبعد السياسي الذي انتج رئيسا سنيا للبرلمان وآخر كرديا لرئاسة الجمهورية، بينما نجده يرفع شعار عدم الإعتراف بالواقع السياسي برمته، ويتهم الدولة بجميع مؤسساتها التنفيذية والقضائية، بالفساد والتبعية والعمالة للاجنبي، لكن هذا الشعار سرعان ما تبخر فور إعلان النتائج، ورضخ الثوريون للأمر الواقع، وتعاملوا مرغمين بواقع تشريعي برئاسة سنية، وجمهورية برئاسة سياسي كردي.
يفهم من كل ذلك ان المجاميع التي تدعي تمثيلها لتشرين، لا مشكلة لها مع الواقعيات السياسية المتمثلة بالسنة والإكراد، بينما مشكلتهم مع مخرجات الصوت الانتخابي الشيعي، فهم يتبنون سلوكيات رافضة لمجمل الطبقة المتصدية، التي جاءت باختيار جماهير الوسط والجنوب، وكأن هنالك عداء متأصل بين هؤلاء وبين أبناء جلدتهم، دون أن تتأثر مشاعرهم بخطابات المودة والاخوة الصادرة من بعض الفعاليات، وكأن كل من يتبنى الرؤية التشرينية أصبح اسيرا لإرادة العقل الجمعي، الذي تتحكم به العواطف والذي لمسنا نتائجه الكارثية في مدننا، حيث ان هؤلاء دون أن يشعروا قد مثلوا دور الأفعى، التى تستأنس بلدغ بطنها ولا تعلم متى يحين أجلها، فكيف لعاقل قد اتخذ الوعي منهجا في سلوكياته الحياتية، أن يكون جزءا من هذا الواقع الذي يمثل فيه شباب الوسط والجنوب دور الكومبارس، لمؤلف غامض ومخرج مجهول حتى وإن كان الأداء عراقيا بإمتياز؟