في غربتي..ذات نهار بارد مُترف بضياء الشمس، مررت بمقبرة جميلة قريبة من سكني..مقبرة تزدان فيها أزاهير وأشجار كأنها خميلة من خمائل الجنة.أبهرني المنظر..دخلت المقبرة ووجدت السكون مطبقا على القبور.. لم أسمع سوى حفيف الأشجار كأنها تبكي من رحلوا..وبينما أنا أقرأ في قلبي سورة الفاتحة لمحت أمرأة مُتّشحة بالسواد تجلس عند أحد القبور..كانت تبدو في الأربعينيات من عمرها.أخرجت قنينة عطر من حقيبتها وبدأت ترّش العطر على القبر..ثم سرعان ما أختلط دمعها بماء العطر..
آلمني المنظر، وأنا دوما عاطفي للغاية في هكذا مواقف، اقتربت منها فرأيت على المرمر عند مقدمة القبر صورة شاب وسيم ذو ابتسامة هادئة..لم تنتبه المرأة لي..بقيت تمسح القبر بالعطر حتى فاح في الفضاء وتنسمت عبيره.غالبت ترددي وخجلي وسألتها شغوفاً:
-سيدتي ..من هو صاحب القبر هذا؟
التفتت لي، فرأيت الدموع السوداء تجرف الكحل من عينيها..
قالت بأسى : إنه زوجي.
واسيتها..قرأت الفاتحة لروحه..ثم عدت أسألها:
-متى رحل عن الحياة ؟
-منذ عشر سنوات.
فوجئت من جوابها..
وقبل أن أفيق من دهشتي ، أضافت:
-كل يوم جمعة أزوره وأهدي له العطر الذي يحبه.
ثم أخرجت من حقيبتها صوراً وقلادة وأشياء صغيرة لم اتبيّنها، افترشتها السيدة الحزينة عند القبر واستغرقت في نجوى باكية مع الرجل الذي تحبه..غالبت دموعي وأنا أغادر المقبرة..وقلت في سري: ياله من حب.. ياله من وفاء. أعرف في مجتمعنا الكثير من النسوة الأرامل لا يفارقهن الحزن على الزوج الراحل..وبقدر ما يعكس ذلك وفاء المرأة فأنه يعكس ايضا حقيقة أن الرجل الصادق والمخلص في عواطفه هو الذي يجعل المرأة تتعلق به لهذه الدرجة بحيث يصبح هو كل عالمها فلا ترى الحياة بدونه حتى عند رحيله..وأحسب أن المعادلة متوازنة فلا سعادة للرجل في الحياة بدون زوجة تمنحه كل هذا العطاء وبلا حدود. على أن الوفاء لاينبغي أن يجعل الإنسان يجزع ويستغرق في أحزانه عازفاً عن خوض تجارب جديدة في الحياة..وكل من يؤمن بالآخرة عليه أن يُدرك بعمق أن الموت ليس سوى رحلة إلى عالم آخر..بل هو ولادة أخرى للروح بخروجها من رحم الدنيا، ولا مبرر بالتالي للجزع والحزن السرمدي.تحية من الأعماق لكل الأرامل الصابرات..مع دعوات خالصة لهن بتجاوز مكابدات الشوق لأزواجهن نحو آفاق جديدة في الحياة.