تسبب نسبة الفقر المرتفعة كثيرا والمتصاعدة باستمرار في العراق قلقا كبيرا لدى الجهات المعنية. وتشير الاحصاءات الرسمية الى ان ربع السكان يرزحون تحت خط الفقر، بمعنى أن دخلهم اليومي يقل عن 3.2 دولار أميركي أي ما يعادل نحو 4750 دينار عراقي. وهذا يعني انه هناك ما لا يقل عن 9 ملايين مواطن فقير من اصل 41 مليونا، في بلد نفطي متوسط الثراء. كانت نسبة الفقر عام ٢٠١٩ قد بلغت 22.5 في المئة، وهذا يعني أن نسبة الفقر زادت ولم تقل.
ويورد الباحثون اسبابا لهذه الزيادة منها الحرب على تنظيم داعش، و فيروس كورون، و التغير المناخي علما أن العراق من أكثر دول العالم تأثرا بهذه الظاهرة اضافة الى الفساد المستشري بين السياسيين.
وهذه ايضا اسباب متوسطة بين الظاهرة و اسبابها الاعمق، والتي تتمحور حول تدني انتاجية المجتمع من جهة، وسوء التوزيع من جهة ثانية. وهذه بدورها تؤشر الى وجود خلل حاد في النظام الاقتصادي في البلد، ومنظومة القيم العليا الحافة به، والتي يمكن على اساسها بناء نظام تشريعي متكامل يضمن التكافل الاجتماعي على قاعدة “وفي اموالهم حق معلوم للسائل والمحروم”. ويرى الفيلسوف الاميركي جون راولز في كتابه الشهير “نظرية في العدالة” ان من واجب المواطنين الاكثر ثراء اعانة الافراد الاكثر حرمانا في المجتمع. وهذا يحصل بموجب قوانين الضرائب التي تفرضها الدولة على الاغنياء لاعانة الفقراء. وهذا هو المبدأ الذي شرع الاسلام على اساسه ضريبة الزكاة، كما يذكر القران الكريم:”إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.”وهذا مبدأ تاخذ به الدول الحضارية الحديثة على نطاق واسع. لكن الصدقات بحد ذاتها، وخاصة الصدقات الفردية التي يدفعها المحسنون بدافع الشفقة او الرحمة او الانسانية لا تكفي لحل مشكلة الفقر في المجتمع، لانها اكثر تعقيدا من مثل هذه الحلول الجزئية، وبدون الاقلال من المغزى الانساني العميق لهذه الحلول. ذلك ان حل اية مشكلة سياسية او اجتماعية او اقتصادية يجب ان يتم في النهاية على مستوى المركب الحضاري للمجتمع وقيمه العليا الذي يتحكم بالظواهر السطحية والخارجية له والتي تعتبر نتائج لهذا المركب الحضاري في حالة صلاحيته للاشتغال او في حالة اختلاله الحاد وفقدانه القدرة على الاشتغال المنتج والمثمر.
ونسبة الفقر العالية في العراق تشير حتما الى حصول اختلالات حادة في المركب الحضاري للمجتمع العراقي وخاصة في المجال الاقتصادي والمجال القيمي وبالتالي فان معالجة مشكلة الفقر لابد ان تتم من خلال معالجة الخلل في النظام الاقتصادي والنظام القيمي في العراق.
ويتمثل الخلل الحاد في النظام الاقتصادي العراقي، من بين امور كثيرة، في كونه نظاما ريعيا لا يشجع على روحية العمل الانتاجي بخاصة في العلاقة مع الارض، واستثمارها، والميل الكاسح لدى قوة العمل الى التوظيف في الدوائر الحكومية طمعا بالراتب المضمون والتقاعد وبقية المزايا التي يتمتع بها الموظف الحكومي.
وحتى اصحاب النوايا الطيبة يركزون في تعاملهم مع مشكلة الفقر والفقراء على تقديم مساعدات عينية ونقدية للفقراء دون العمل على الحلول الانتاجية للمشكلة والتي تتضمن توفير فرص عمل انتاجية على مستوى الزراعة او الصناعة او التجارة او الخدمات للعاطلين عن العمل والفقراء. ولا شك ان هذه المساعدات تقدم دعما سريعا للفقراء لكنها لا توفر حلا جذريا للمشكلة. علما ان الحلول الجذرية ليست متوقفة على النشاط الحكومي وانما بمقدور النشاط الخاص ان يحل مساحة ملموسة منها.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *