بقلم | الكاتب محمد عبد الجبار الشبوط
الانسداد الحضاري تعبير يشير الى عطل المعادلة الحضارية وتوقفها عن الاشتغال المنتج.
والمعادلة الحضارية كما ذكرتها في مقالات سابقة هي:
الحضارة = المركب الحضاري x منظومة القيم العليا
ويتألف المركب الحضاري من خمسة عناصر اولها ومحورها هو الانسان.
ويتوقف دور العناصر الاخرى (وهي الارض والزمن والعلم والعمل) على الانسان نفسه، فردا او مجتمعا.
فاذا صلح حال الانسان صلح حال المركب الحضاري واشتغل بالشكل المنتج للحضارة. واذا فسد حال الانسان فسد معه حال المركب الحضاري وتوقف عن الاشتغال المنتج للحضارة. وهذا هو الانسداد الحضاري.
والانسان في جوهره عقل. وحركة المركب الحضاري مرتبطة بشكل مباشر بالعقل. فان حضر عقل الانسان اشتغل المركب الحضاري، وان غاب عقله، او استقال كما يعبر البعض، توقف المركب الحضاري عن الاشتغال. ولهذا وجدنا الكثير من الايات القرانية تُختَم بعبارات: لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، لقوم يعلمون، لاولي الالباب، وما شابهها، مثل قوله تعالى:””قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ”. (الزمر 9)
واذاً، فان “استقالة العقل” هي السبب المباشر والاول للانسداد الحضاري. واستقالة العقل مرض يصيب المجتمعات لاسباب شتى، وقد اصيب المجتمع الاسلامي الاول ببعض هذه الامراض. كما اصيب المجتمع العراقي في زمن الدولة العباسية بمثلها. واليوم يعاني المجتمع العراقي الحالي، وهو وريث ذلك المجتمع العراقي العباسي، بالكثير من الاسباب والعوامل التي تؤدي الى استقالة العقل. ولعل الكثير من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي يعاني منها المجتمع العراقي الحالي سببها استقالة العقل.
ويتحدث العلماء عن “الخمول العقلي” لدى الافراد واسبابه المختلفة مما يمكن للقاريء الرجوع اليه، ولا اقصد ان اتحدث عنها في هذا المقال، لكني اشير الى بعض العوامل الاجتماعية، وليست الفردية في استقالة العقل وخموله. وباستقراء حالة المجتمع العراقي خلال العقود بل القرون الكثيرة الماضية نستطيع ان نضع ايدينا على بعض هذه الاسباب التي ادت الى استقالة العقل في المجتمع العراقي.
لعل من اول هذه الاسباب قلة العلم والمعارف الصحيحة. فالعقل مثل جهاز الكومبيوتر الذي يشتغل حسب معلومات البرمجة الموجودة فيه. هذه البرامج هي “العلم” الذي يمكن الكومبيوتر من الاشتغال. كذلك عقل الانسان، يشتغل وفق المعلومات التي يختزنها. فاذا كانت هذه المعلومات صحيحة ووافية بالغرض، كان اشتغاله صحيحا. وهذا الذي افهمه من قوله تعالى: “فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.” (النمل 52) فان الاية تقول ان الادراك السليم قائم على العلم الصحيح. والادراك هو احدى العمليات العقلية. فاذا توفر العلم الصحيح بالموضوع امكن للعقل ان يدرك الموضوع بشكل صحيح. فكما ان العقل السليم في الجسم السليم، فان الادراك الصحيح في العلم الصحيح. ومن هنا اهمية العلم في المركب الحضاري. فان اشتغال المركب الحضاري بصورة صحيحة يتوقف من بين العوامل الاخرى على توفر العلم الصحيح بالموضوعات، بما في ذلك العلم بالارض التي تشكل العنصر الثاني في المركب الحضاري. وهذا هو ما ينبغي ان نفهمه من قوله تعالى:”هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” ( الملك 15) او قوله تعالى:”قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ.” (العنكبوت ٢٠). ويلاحظ ان كل الايات القرانية التي استشهدت بها في هذا المقال مكية، بمعنى انها نزلت قبل قيام الدولة في المدينة، ما يكشف عن اهمية بناء منظومة القيم الحافة بالمركب الحضاري لدى النخبة القيادية قبل الشروع ببناء الدولة على المستوى الجماهيري. واليوم فان هذه هي مسؤولية النظام التربوي الحديث.