ليس من باب الترف الفكري أن يقدم الصمت نفسه تيمة نوعية في السرد وفي الشعر وفي مناشط جمالية توظف له القيم الضوئية أو لغة الاجساد…والشاعرة هدى كريد لم تأمن سلطة الخرس ووقعت في شراكه بنفس راضية رضية بداية القصيد ووجيعة أذية في القفلة.بداية الصمت كانت ثورة على قوانين اللسان العربي وخروجا عن الطرق المسطورة التي تجمعها ببني أمتها بدءا بأبناء وطنها.فهاهي تتعمد خلخلة الجملة الاسمية في صيغتها المقررة نحويا عبر تقديم الخبر وتاخير المبتدا منذ السطر الأول كفرا بالنحو والسير على نحو والانتحاء وعقم تراث يحد بضوابطه المتحفية الإقلاع ويقبر الأحلام غفوة ويقظة:”في متحفي الاخرس/نوايا لم تكتمل /وبقايا أحلام.
لم تتكف الشاعرة بارباك النموذج اللغوي واثرت
عليه الاستئناس بالوقوف على طلل وطن صخره زيف الكلام ومكرور الخطب الجوفاء تتقاسمه كغنيمة .وماانتقاء”الصوى” كعنصر طبيعي قوي الوسوم الا لتصعيد نبر الوجيعة من لغة تغتال الحياة بعقم يرسخ المأنوس ويعيد التاريخ في شكله البائس.:”وصوى وطن نهشه الكلام /في الجدران شروخ العادة”.
إن اليقين تشريع لحقيقة وانخراط في قبول يظل عنوان التواصل .والتواصل كلام تتنحى عنه الشاعرة بالحلول في منطقة اليقين الموبوء
أو يقين اللايقين. وبتسلل هكذا انفعال والأصح هكذا موقف توغل في صمتها :”يقين مستراب”.
مثل هذا المركب النعتي الذي يطلق التريب بتنكيره ونكرانه اقتضى حسن التعليل.لذا وعت الشاعرة خطورة تبني المواقف واطلاقها جزافا لتطلق الأسطر حجاجا قويما ينتصر لمسافة الصمت السميكة الفاصلة بينها وبين العالم المحيط بها.فالاستعارة المكنية تكفلت بأول العلل.خطاب معتل يزيد المعلول اعتلالا لأنه يصدر عن اجترار أصحابه مفردات تجذر اليومي وتبرمج لغباء مستديم والأنكى أنهم يذهبون في لوكهم حدودا قصية تستوفي الغايات المشبوهة .وكأننا بهم لاينوون التوقف عن سفاسهم وعن نشر عقمهم ويؤثرون العدم على الندم (العبارة لسفيان بن رجب في”الساعة الأخيرة”) فتفضحهم “حتى”عطفا واستغراقا أديا إلى كلام كلاكلام فخرس مبين.تقول الشاعرة:”تهرأ البيان من فرط الضجر/حتى تكمم اللسان.وفي لحظة فارقة تتضور تأسيا من وضعيتها امراة مبدعة في مجتمع ذكوري يقصر المطبخ عليها ؛فتأخذها المواقد من وهج الكلم إلى اخماد النهم.مواقد كلما توهجت بهتت الروح
وخبا نيرها .لم تكن عبارة “المطبخ”في معزل عما يتناهى اليها من لغة تجهز للاستهلاك اليومي سياسيا ولم لا عاطفياً؛ سرعان ماتتساقط أوراق توتها مع أول اختبارات جدية.:”المطبخ أجهز على حشود العبارة”.لم يكن وعي الشاعرة الحاد بمٱل الخطاب الى التهافت والترذيل يسيرا على نفسها .فقد تحولت هذه إلى ساحة اقتتال دام بين التعايش مع الوضع واعلان التمرد ضجرا .وقد أدى هذا الصراع الى إحساس الشاعرة بالغربة على النفس. وليس أشق على المرء من أن يكون في” غربته غريبا”. وإن حاول استعادة نفسه فجعه افتقاد المعاني وتحول اللحظة إلى مكرور عقيم يكشفه التوازن بين الأسطر وتواتر الجمل التقريرية المثبتة نفيا بحثا عن اختراق اللامعنى والحلم بمعنى اللامعنى على عبارة الطاهر لبيب ( عنوان محاضرة له في صفاقس).ووفقت الشاعرة في بث العوامل الخفية /النفسية باختزال ووميض كعادة شعراء الحداثة في صمتهم عن حكي الوقائع المفصلة حين أوردت”واقتتل على حواف الروح صبري والملل/ماعدت أنا/عطن الأيام /وعتمة الليالي. ورغم ذلك اخترقت سجف الاستكانة وضجت العبارة بفيض أفعال متضادة نقلت تقابل أحوال وعمقت حركة نص ترجم غليان نفس وشعرية مقطع حكمه التوتر:لاأنام /ولا أصحو/لاأتقدم /ولا أحجم.
ادت مناهضة الواقع المرير للكلام وانغلاق منافذ الحوار إلى كسر الاطواق ولو من كوة تطلق من خلالها العنان للحلم؛ للهذيان ولحوار مع الذات يؤكد القطيعة مع الخارج القمعي .كانت أولى المفردات تطلعا لإعادة كتابة تاريخ يربط المرأة بالرجل وبالجانب الشيطاني منه.فالشاعرة تتجاوز محاورة البشر إلى محاورة القدر تشفيا من الرغبة في إلجامها وتخطي تهمتها بتهمة أجمل تستعيد معها موقعها ككتلة للجمال تعود إلى الطبيعة؛ عودة أصل إلى فرع في صورة انتشارية يقطع فيه البهاء الكون عموديا وافقيا:
تسمرت في ثقب الباب/تخشبت على محجر الغريب/أشتهي سطحا أملس لأتزلج في شقاوة الأطفال /علي أكسر ضلعا أعوج /لا تعني نفسي بإرث القهر/ولا صخب العالم حولي /وأذوب في سكينة القمر /يهدهدني بوشوشة السواقي.
إن القدرة على اختراق الصمت والاستكانة والعطالة وكل أشكال الاقصاء فنيا وجندريا ومواطنيا لم تتم دون ثخانات .وماانتقال الخطاب من الخبر إلى الإنشاء إلا تنح عن المواجهة العقلية إلى استغوار دهاليز النفس الحائرة جراء افتقاد الهوية :”من أكون ؟”والتباس المهمة بين أن تكون انسانة تشيع الخير والجمال في الكون وبين أن تكون عابرة على هامش الوجود معلته :”طيف مسرة/أم نكبة تخلدت بذمة الوجود ..”.وانتهت الاستفهامات بالغرق في مستنقع الجنائزية والوقوف على أطلال حلم مخذول ٱل إلى وحدة قاتلة انسحب نجمها وما في السماء بشير:”أو مجرد تذكرة عبور/يلقيها مسافر وحيد /أيها المدى /لم اهترأت في وثبة النزق/وسواكب للدموع؟”.
ح.ق
جداريّة الصّمت
في متحفي الأخرس
نوايا لم تكتمل
وبقايا أحلام..
وصوى وطن نهشه الكلام
في الجدران شروخ العادة
ويقين مستراب..
تهرّأ البيان من فرط الضّجر
حتّى تكمّم اللّسان
المطبخ أجهز على حشود العبارة
وأقتتل على حواف الرّوح
صبري والملل
ماعدت أنا
في متحفي الأخرس
عطن الأيام
وعتمة الليالي..
لا أنام
ولا أصحو..
لا أقدم
ولا أحجم
تسمّرت في ثقب الباب
تخشّبت على محجر الغريب..
أشتهي سطحا أملس
لاتزّلج في شقاوة الأطفال
علّي أكسر ضلعا أعوج
لا اعنّي نفسي بارث القهر
ولا صخب العالم حولي
واذوب في سكينة القمر
يهدهدني بوشوشة السّواقي
ويلفعني بغلالة الضياء
من اكون؟
طيف مسرّة
أم نكبة تخلّدت بذمّة الوجود
من أكون ؟
حفيف ظلّ
أو مجرّد تذكرة عبور
يلقيها مسافر وحيد ..
ايّها المدى
لم اهترأت في وثبة النّزق و سواكب الدّموع؟