الشجرة التي عفت عنها الريح…
________
عَلقنَا عن غير قصدٍ بجزيئات الموت،
كانت شهقاتنا بداخلها خليطاً من السنينِ الغابرة،
نعبرُ إلى مصاطبِ الموت حذرينَ،
و رغم ذلك لا يخلُو حَديثنا من نكاتٍ،
عن شجرةٍ قصيرة عفت عنها الريحُ،
عن الأفق الذي لا يُحسنُ التصرف مع قُبرات لا أعناقَ لها،
غداً ربما نستأنفُ العبورَ إلى بُغيتنَا على هيئة فسائلٍ عرجاء،
فسائل لا تجيدُ جدليات العُبور دفعة واحدة،
تنبحُنَا في وجوهنَا جُثث المارينَ قبلنَا بلحظاتٍ،
يفوحُ منهَا غدرُ الليل،
وتراكمات السفرِ،
ليسَ كل شيء على ما يُرام إذا تعلقَ الأمرُ،
برملِ المقابرِ المتحركِ ببطءٍ أسفلَ نِعالنَا الصّغيرة،
نتحايلُ على السّكراتِ،
لنظلَ مُتسامرينَ حول كوانينَ الأرقِ لزمنٍ أطول،
نديرُ بروية أحاجينَا المفعمةِ بالغموضِ،
لنظل شيفراتٍ مُبهمة،
نتحايلُ على الريحِ،
لنظلَ بعيدينَ عن الموت بمقدارِ رغبةٍ طويلة الشهواتِ،
بمقدارِ [دشْرةٍ] نائية،
نطرقُ مساميراً على تخومِ هشاشتنا،
لنظلَ خشباتٍ متقايسة الوجعِ،
من أخبرَ الغمامَ أننا هاهُنا ملتفينَ حول أعناقنَا ؟
نمهرُ بحبكةٍ فوق فرائِصنَا تموجَات الرعشة،
نَستعيدُ قُدراتنا على القهقهة التي فقدناها في أفنية حيواتنا القديمة،
أخبرنا سَاعيِ البريد،
و قد طوى بين يدهِ أكفاننَا،
أننا قاب قوسين أو أدنى من سِدرة المُنتهى،
ضحكنَا ملء أشداقنا،
تَصافحنا كالغرباءِ بحرارةٍ،
قبّلنَا جِباهنَا حتى شبعنَا،
صدحنَا بأغنية تركها لنا الرعاةُ في جِرابنَا،
ثم عاد ساعي البريد ليخبرنَا،
وقد شرّعَ بين يدهِ شكلَ أكفاننَا،
أننا نرزحُ تحت موتٍ لم تتنبأ له بوصلة السماء،
لم يردِ له أثراً في خطوط كفوفنَا المتعرجة،
رقصنَا كعَرائس القراقوز تُحركهَا حبالَ خفية،
متعثرين بالشمعِ الأحمرِ على أقفالِ توابيتِنا،
اعتذرنا للرعاةِ،
و سِرنَا زُمراً بداخلِ موتاتنَا،
مطأطئي الرؤوس كالسنابلِ،
كانت نِعالنا متعبة من السيرِ فوق رمل القبورُ الغائرِ،
و كنا متعفنينَ بما فيه الكافية ليُفتحَ لنا باب السماء باكراً،
وتُستلمُ مفاصلنَا تلكمُ التي تئنُ كنوافذٍ قديمة،
كنا هادئين على غير عاداتنَا،
نغمسُ في لزوجة أرياقنَا كعْكاتنَا،
آخر ما تبقى في جِرابنَا،
نقرأ طقوس نعْينا على جرائد الحلفاءِ،
ندخُن أصَابعنا،
نحتسِي قهوة الصباحِ على عجل،
نحن على موعدٍ بسؤالاتٍ أكثر جُرأة،
فما أطولَ عصَا الصباح وهي تُعدلُ من التواءات صُفوفنا !
تجعلنا مُتراصين كحَبات المسبحةِ،
كنا طوابيرَ جثثِ تحت المطر،
عبثاً حاولَ الرذاذُ غسلنَا من رغباتِنا القديمة،
عبرنَا زُرافاتٍ إلى أقفاصِنا،
عبرنَا وِحْدانَا إلى أقاصِينَا،
أخبرني سَاعيِ البريد قبل أن ألمحَ مشارفَ أقصايَ،
و في يدهِ غصنٌ قصير يتأهبُ ليُورقَ،
أني قاب قوسين أو أدنى من ضفة الوادي،
ثم أردفَ:
_ اخلع نعليكَ فقد عفتِ عنك الريحُ،
كما عفتِ عن الشجرة،
وعلى حين غرةٍ،
لا أدري كيف عبرتْ في ذهني قُبراتٍ شطر الأفقِ،
قُبراتٍ لا أعناق لها.
_حمادي فاروق_
نص القراءة:
تعرفت لكتابات المبدع الجزائري من أم البواقي كما أظن فاروق حمادي منذ فترة قصيرة، حظيت بقراءات سريعة في نصوصه الشعرية التي ينشرها على صفحته بين الحين و الآخر، شعرية كتاباته واضحة بشكل جلي مثل شاعريته التي يبدو أنها أدمنت معانقة اللغة، أول ما شد انتباهي في نصوصه الشعرية النثرية هو نفسه الطويل، أدهشني بحق طول نفسه في سطوره و في نصوصه و كأنني ظننت من قبل أن قصيدة النثر قصيرة النفس بطبيعتها، رأيت معه كتابة لم أحظ برؤيتها من قبل، كتابة شعرية نثرية تتمادى في التألق مع اللغة و في اللغة، عباراته و تراكيبه تشحن العربية المتداولة حاليا بأزياء جديدة تحظى بالقبول أمام آفاق المعنى الرحبة و أمام القارئ أيضا، هذا النوع من الكتابة جعلني أسمي فاروق حمادي بمسكن الشعر، الشعر يسكن هذا الرجل بأريحية و أنس يدعوه للبقاء به أكثر و أكثر، لغته هادئة لكنها تجعل المعنى متأججا بضراوة موحية بنضج في هذه التجربة الشعرية الجزائرية.
قد تكون هذه القصيدة حديثا شعريا عن تجربة الشعر و معاقرة الكلمات، فعندما تكون النكتة عن الشجرة التي نجت من هبوب الرياح لقصرها، عندما تكون النكتة دائرة حول الشجرة التي تحمل دلالات الحياة في عرف البشر، حينها تكون الذات الشاعرة محيلة عبر تجربة الشعر إلى حياة أكثر أصالة و خصوبة من حياة الشجرة و من الحياة التي نعرفها، و هذه النكتة تعرض من جانب آخر بأن علو الأشجار الأخرى ليس أكثر تألقا من آفاق الرؤيا( مشارف أقصاي)، لكن مفارقة تكمن في كون هذه الحياة التي تعنيها الذات الشاعرة بكونها أكثر أصالة و تألقا، تكمن في أن هذه الحياة أقرب إلى الموت من أي شكل آخر للحياة البشرية( نتحايل على السكرات)، عبارة نتحايل على السكرات تصور معاناة الكتابة و نحت المعنى عبرها.
سير الذات الشاعرة على رمل المقابر يمثل محاولتها الدائمة لبث المعاني التي تتألق في رؤاها الشعرية و الفكرية ضمن عبارات من صميم اللغة، فالموت المترصد بها ماثل في توقف هذا البث الدائم للحياة في اللغة، تجدد اللغة و حياتها إنما تكون بتشكلها في الكتابة الشعرية و توقف هذا التجدد بدخول الكتابة في التقليد و التكرار يمثل ( الموت الذي لا تنبئ عنه السماء و لا قراءة خطوط اليد)، تظهر هنا قساوة المشهد الدرامي الذي يصور فيه فاروق حمادي القلق من نضوب منابع القريحة الشعرية كما حدث ( جثث المارين قبلنا)، لهذا يتمسك الشاعر بملامح الرؤيا و هي تحاول التشكل في كل مرة( غصن قصير يتأهب ليورق).