بقلم | ابراهيم الزبيدي

 

ألقى المدعو هادي العامري الذي يتولى قيادة (الإطار التنسيقي) الخاسر في الانتخابات خطابا عجَبا حذر فيه، بحرقة وحزن وحميّة، من رغبة البعض في تهميش البعض الآخر في الحكومة القادمة، وأعلن أنه ورفاقه في البيت الشيعي (المتشقق) يطلبون من خصومهم الرابحين في الانتخابات تحكيم العقل والحكمة وتقديم مصلحة الشعب العراقي على المصالح الحزبية والشخصية لتفادي خسارة آتيةٍ لن ينجو منها أحد.

طبعا لم يكن مُتوقَّعا من هؤلاء الغارقين في قلة القيمة، والمدمنين على الخطيئة والتبعية، أن يفهوا درس الانتخابات الأخيرة، وأن يسارعوا إلى مراجعة الذات، وأن يتخلوا عن النفخة الكذّابة، ويعتذروا لكل مواطن عراقي خرَبت بيتَه مفخخاتُهم وكواتمهم ومسيَّراتهم وصواريخهم، لينقذوا ما يمكن إنقاذه من مواقعهم التي تمنحهم الحصانة، وتمنع عنهم ساعات الحساب العسير القادمة دون ريب.

لم يدركوا، بعد، حجم النقمة التي يكنها الشعب العراقي لهم، والتي جعلتهم يسدّدون ديونا باهظة تراكمت عليهم، على مدى ثماني عشرة سنة، ليس فقط عن تطوعهم للعمل خدماً وسماسرة ومخبرين لإيران، بل عن مُباهاتهم بالتبعية والعمالة والارتزاق.

ولو كانوا ذوي حصافة وحنكة وشطارة لستروا عمالتهم تلك، ولحرصوا على جعل زياراتهم لطهران، أو لقاءاتهم بأسيادهم الإيرانيين في العراق، سرية، كما يفعل عملاء آخرون كثيرون شيعة وسنة وكرد يشتمون أمريكا وإسرائيل والسعودية وقطر والإمارات، ظاهرا على شاشات الفضائيات، وهم الوكلاء الرسميّون المعتمدون المكلفون بخدمة مخابرات هذه الدول، ورعاية نشاطاتها، مقابل مكافآت منقولة وغير منقولة، منها تحويلات بمئات الملايين من الدولارات إلى حساباتٍ سرية  لهم خارج العراق، ولا من شاف ولا من درى.

وقبل أن نتقدم أكثر في هذه المقالة يلزم التوضيح بأن الحديث عن الحكم الشيعي في العراق لا يمس الشيعة كطائفة، وذلك لأن الشارع الشيعي العربي، بتكويناته المتعددة، وتوجهاته الفكرية والثقافية والعقائدية المتنوعة، مُغيَّب، بل مضطهد كغيره من الشرائح العراقية المهمَّشة الأخرى، وإنما المقصود هو الجمعُ السياسي الشيعي المحتكِر للسلطة، منذ 2003 وحتى اليوم، وربما إلى الغد القادم البعيد.

فمن أول تسلطه على الحكم وحتى اليوم رافقَه تنافرٌ دائم بينه وبين الشعب، وبين أحزابه وتجمعاته ومليشياته الحاكمة فيما بينها، وبينه وبين دول الجوار ودولٍ خارجية مهمة عديدة. وكان لابد لهذا التنافر المتصاعد المتجدد أن يفضي إلى فشل الدولة وإفلاسها، وضياع هيبتها وسيادتها وكرامتها.

وبدون شك، لم يكن التمزق الجذري العميق في نسيج المجتمع العراقي ليحدث لو لم يرتكب قادة البيت الشيعي، (نوري المالكي وابراهيم الجعفري وهادي العامري وآل الحكيم ومقتدى الصدر وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي، ومصطفى الكاظمي وقيس الخزعلي وغيرهم)، أخطاءً كبرى قاتلة، وما زالوا يرتكبونها حتى بعد ما حلَّ بهم في أعقاب الهزيمة الانتخابية المجلجلة الأخيرة، ولا يتعلمون ولا يتعظون.

ولعل أول وأهم هذه الأخطاء وأخطرَها مجاهرتُهم بترابطِهم العضوي المصيري مع إيران، الأمر الذي استدعى خصومة جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية الرافضة لهيمنة إيران على العراق والمنطقة.

وثاني أخطائهم اعتمادُهم سياسة التعالي والعنجهية والقمع والتهميش مع الطائفة السنية والمسيحيين، وفي حالات كثيرة مع الأحزاب الكردية التي تحالفت معهم في البداية، والتي بدونها لم يكن في إمكانهم ركوب السلطة، والتفرد فيها، واحتكارها.

وكان طبيعيا ومتوقّعا أن يستثمر هذه الحالة دواعش، و(قاعديون)، ورجال دين طائفيون، وسياسيون إنتهازيون، ودولٌ مجاورة من مصلحتها منع قيام دولة عراقية متماسكة موحدة، وقوى خارجية ومحلية عديدة معادية لهيمنة إيران على العراق.

ليس هذا وحسب، بل إنهم أساؤا السلوك مع أبناء المحافظات التي حكموا بأصواتها وباسم مقدساتها، وهو ثالث أخطائهم القاتلة، دون شك.

فقد مارسوا مع عموم الطائفة الشيعية سياسة تهميش متعمدة وعدم احترام وإهمال وحرمان من الحد الأدنى من الخدمات، في الوقت الذي بدّدوا فيه مئات المليارات من الدولارات على مشاريع استعراضية خداعية، كالإغداق بلا حساب على مواكب العزاء المفتعلة، والإكثار من مراكز العزاء، وتكوين المليشيات وتسليحها، لإلهاء الطائفة من جهة، ولإرهابها من جهة أخرى. 

وأساليب القمع والإرهاب والاغتيال والاعتقال لمعارضين شيعة يرفضون ولاية الفقيه لم تعد تخفى على أحد. فهي التي أشعلت فتيل النقمة عليهم، وأطلقت الانتفاضات والتظاهرات الشيعية ضد حكمهم وضد حاميتهم، إيران، على امتداد سنين حكمهم سيء الصيت.

بعبارة أخرى لقد عزلوا حكمهم عن طائفتهم نفسها، بعد أن عزلوه عن طوائف وشرائح الشعب العراقي الأخرى، وخرّبوا علاقات الدولة العراقية بدول الجوار، وبعموم دول الخارج، كذلك.

أما الخطأ الرابع فهو اقتناعُهم بأن المال يخدم الحكم ويطيل عمره ويثبت أركانه. وعلى هذا أجازوا وشرعنوا لأحزابهم ومليشياتهم حق استباحة موارد الدولة، والتصرف بالوزارات والمؤسسات، حصصا ومكافآتٍ وعمولات وصفقات، وغضوا الطرف عن تهريب الملايين والمليارات إلى الخارج، ليكتشفوا، أخيرا، أن كل أموال الدنيا لم تمنع الشعب العراقي الذي استغفلوه وسرقوه وظلموه من معاقبتهم، وتقطيع أوصالهم، ودفعهم دفعاً إلى مواجهة المصير.

وفي جميع الأحوال فهم، بمجمل سياساتهم التهميشية والقمعية والانفرادية هذه، شوهوا سمعة التشيع، وألحقوا الضرر بأنفسهم وأحزابهم وبالوجود الإيراني، نفسه، في العراق، وربما في المنطقة.

لقد أضاعوا أنفسهم، وأضاعونا معهم، ولن يغفر لهم هذه الجريمة شعبُ العراق الذي يبكون عليه اليوم، ولكن بعد فوات الأوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *