قد يكون الفيلسوف الرائع سلامة موسى أول من استعمل كلمة المثقف في مجتمعنا العربي والتي تدل على امتلاك الفرد مجالا واسعا من المعرفة، ولابد ان تكون في عدة مجالات وقد بين هذا في مناقشته لمفهومي الثقافة والحضارة. ويعتقد سارتر بان المثقف يدس انفه في مجالات عديدة. كل ما نقوله ممكن ان يكون واردا ولكن التساؤل هنا: ما جدوى المثقف الذي يعتبر نفسه أعلى مستوى من الاخرين وان يترفع في تصرفاته عن البسطاء؟ ان ثقافته هي لإشباع غرورة والاشباع بالتأكيد يدل على نقص لاشعوري يدفعه للاستزادة المعرفية لأجل سد فراغ نفسي ذاتي. هكذا شخص لم يفهم نفسه وعليه فان الاخرين لن يفهموه لان روابط التأثير المتبادل مفقودة وهذا يذكرني بنصيحة الأديب الروسي أنطوان تشيخوف لأخية الرسام الذي تذمر
لان الناس لم تفهمه حيث نصحه بان يفهم نفسه أولا..
وان اعتبرنا التراكم المعرفي هو الفاصل في المثقف، فلابد أن يكون عارفا ومتضلعا في كيفية التأثير بالآخرين إيجابيا وان لا يحط من قدرهم ليصبح مكروها من قبل الدائرة الاجتماعية حيث تحيطه حلقةُ مَن يجاملونه لأغراض معينة. فهل ينبغي للناقد الادبي ان يسفه ما يكتبه الاخرون ويحول نقده إلى انتقاد. ان المعايير الاجتماعية المرتبطة بالذوق والذكاء في معرفة طرق التأثير بالاخرين ضرورية للناقد الذي لابد ان تكون مسحة الود والتواضع غير المتصنع من اهم صفاته.
وعندما أقرأ لابد أن امتلك القدرة على التمييز وان اكون شبه حيادي لما يطرحه الاخرون لا أن أتأثر بشكل متطرف لأجد نفسي مدافعا عن أفكار شوفينية مدمرة. ومن يقرأ كتاب كفاحي لأدولف هتلر ولم يمتلك قدرة التمييز تكون نتيجته التأثر به وقد يتبنى أفكاره. وهكذا بالنسبة للبقية. وبعض ما نسميهم المثقفين يعتمد على نوع واحد من المعرفة خشية تأثره على ما تراكم في ذهنه الذي قد يحرفه او يقلل من حماسه لما يؤمن به.
وفي شبابنا كنا نحضر محاضرات لأحد أئمة المساجد،. وكنا مجموعة من المدمنين على القراءة بشكل غير طبيعي. وقد سأله أحدنا عن نظرية دارون وعلاقة الانسان بالقرد فرد عليه ووبخه بأن هذا حرام، لكنه تفاجأ عندما جلبت له كتاب أصل الأنواع لجارلس دارون وبعض النظريات التي تعارضه وان يطلع عليها ليعرف كيف يرد على الشباب الذين إثرت بهم هذه النظرية التي يتهمها الآخرون بأنها تدعي إن أصل الإنسان قرد. لقد رفض اول مرة لمس الكتاب واعتبره نجسا لكنني اقنعته بضرورة الحديث مع الاخرين بعقلانية وانها مجرد نظرية تحتمل النقد كباقي النظريات. وفعلا استطاع تعديل اراء بعض الشباب وايضا التخلص من الإحراج الذي يقع فيه أحيانا.
وقد حضرت مرة مناقشة نيل رسالة الماجستير في طرق التدريس في اللغة الإنكليزية لاحد أصدقائي الذي الح بأن أطلع عليها قبل موعد المناقشة حيث وجدت أن لا رأي له في الموضوع الذي سيناقشه بل : قال فلان وقال فلان… فقلت له وانت يا استاذ أين موقعك؟ لابد ان يكون لك رأي بغض النظر عن سعة وشهرة ما تنقل عنهم. وفعلا وجدته محرجا ولم يمتلك الجواب بل فضل السكوت عندما نبهته الدكتورة في جلسة المناقشة، مازلت أتذكرها رغم مرور عقود عليها :
Where are you Mr.? I can’t find your opinion. أين أنت يا أستاذ؟ لم أرَ رايك هنا!
وبرأيي المتواضع إن مصطلح المثقف intellectual يعبر عمّا يحصل عليه الفرد من خبرات معرفية نتيجة الدراسة والبحث والتقصي غير بعيد عن هموم مجتمعه، ولكن هل يوجد سقف زمني لما يكتسبه الفرد من معلومات ليمتلك وبجدارة لقب المثقف؟ بالتأكيد تبقى الحياة متطورة وعليه سنعجز عن الوصول لهذا السقف وعليه لابد أن نركز على صفة المتعلم learner لأننا طلابٌ في هذه الحياة وهذا ما تركز عليه الدراسات السيكولوجية وأنا أثق بها. نحن متعلمون إذن لأن الذي يطلب العلم من المهد إلى اللحد والذي يذهب لأبعد المسافات لطلب المعرفة، ما هو إلا طالب يبقى في صفوفه الأولى في هذه الحياة. المتعلم شجرة مثمرة تنحني لنا لتكون قطوفُها دانيةً لمن يشتهي ثمرَها، وهذا لعمري منطق الحياة المتجدد أبدًا.
علي البدر/ العراق

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *