الأخبار كلمات متقاطعة، والأيام كِباش متناطحة، والمطر لا ينزل إلا قطرات قطرات، والتلاميذ وهم يحملون حقائبهم الثقيلة يملؤون الشارع الترابي بأريج الصباح الجديد، وساعاتي خيول تركض وحيدة على البساط الرمادي للدقائق والثواني من غير هدف، وأنا أركض خلفها بلا جدوى، والأنهار بمائها الشحيح تجعني أجرُّ الحسرات على النعناع اليابس على الضفاف، وأقول من غير تبجُّح: إنني لا أريد أن أعيش في تلك المنطقة التي وصفها ثيودور روزفلت بأنها (رمادية) حيث لا يوجد نصر ولا توجد هزيمة، وذلك لأنني مثل ابراهام لينكولن (أريد أن يقول عني من يعرفني تمام المعرفة، إنه كان ينزع الأشواك ليزرع الأزهار أينما ظنَّ أن الأزهار قد تنمو)، مندفع أنا نحو الحياة، واندفاعي أعمى، والاندفاع الأعمى نحو الحياة عند شوبنهاور هو (الإرادة) المدمجة بالمعرفة والوعي، وها أنا أقف، أقف كلما سرت، وأسأل نفسي والآخرين عن: القيم والمواقف، فإنما الإنسان بالقيم والمواقف، وما عداها حطام، وأقول للذين يبنون قصورهم في الهواء: فقط اجعلوا أُسسها على الأرض لتكون صالحة للسكن والحياة، الحياة: يا لها من كلمة كاملة البهاء مثل قصر ملكي وفائقة الجمال مثل حديقة غنّاء، وهي قبل هذا وبعده جامعة للمتناقضات، فهي لامَّة مفرِّقة، قاسية حنونة، بريئة ومتَّهمة، منفى وملاذ، نعيم وجحيم، وهي بلا إطالة: الشيء وضده.

الحياة غامضة مثل غابة، معقَّدة مثل سلسلة من الحبال المعقودة بطريقة غير منتظمة، وصعبة الفهم مثل قصيدة جاهلية، فيها الألم واللذة، والسعادة والتعاسة، والفرح والترح، والوصل والفصل، والربط والقطع، والتَّقبُّل والرفض، ومَثَل الدنيا عند الإمام علي بن أبي طالب (كرَّم الله وجهه) كَمَثَلِ الْحَيَّةِ، لَيِّنٌ مَسُّهَا، والسَّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا، يَهْوِي إِلَيْهَا الْغِرُّ الْجَاهِلُ، ويحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْعَاقِلُ، هذه هي الحياة منذ أن حصل الإنفجار الكبير (The Big Bang) وحتى يومنا هذا، الحياة واحدة والناس متعددون، الحياة قوس كبير والناس يمرّون من تحته بأحوال متضادَّة، فالناس متفائلون ومتشائمون، أغنياء وفقراء، حزانى وفرِحون، كسالى ومثابرون، جادّون وعابثون، عميقو النَّظر وسطحيّون، ولا أحد يستطيع أن يقول بالرغم مما كان ومما هو كائن ومما سيكون، إن الظلم سينتهي، وإن العنف سيزول، وإن الشَّرَّ سيندحر، ولكن على الجميع أن يعمل من أجل انتهاء الظلم وزوال العنف واندحار الشَّرِّ، وتحقيق السلام، وأنا لا أخاف أن أقول كلمتي التي أراها صحيحة، ولا أخاف عواقب تلك الكلمة، فالكلمة ليست تهمة، وأذكر هنا أن سقراط حوكم بتهمة إفساد عقلية شباب أثينا، وهو الذي جعل الفلسفة جزءا من اهتمامات الناس في الأسواق والأماكن العامة، والفلاسفة (ومعهم أصحاب الكلمة الحرة الشريفة) هم أطباء الروح كما وصفهم (أبيقور).

باقة ورد للحياة التي نحياها ـــ أو علينا أن نحياها ـــ بصدق وشجاعة وإيمان ونشاط وعز وكرامة وفاعلية وحرية، ونحن نعلم أن التصورات العظيمة لا تكون واقعا عظيما إلا بالأعمال العظيمة، باقة ورد للحياة ومُثُلها العليا.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *