ربما لم يلق عنصراً من عناصر التأثير الاجتماعي قبولاً وترديداً من قبل المثقفين والمختصين وغير المختصين مثل الجغرافيا. فأذا كان العراقيون لا زالوا يعيشون في العصور الهجرية الأولى للأسلام، ويسكنون بين طيات الكتب التي أرّخت لتلك الفترة وأُغرمت بما كتب فيها من قصص وتراث وفكر لا ينتمي لهذا العصر،فأن العراقيين كما يعتقد الكثيرون لا زالوا، ككثير من العرب، يسكنون البادية أو الريف بأفكارهم حتى وأن لم يسكنوها بأجسادهم. لا بل أن أول نظرية عرفها العالم في علم الاجتماع السياسي، نظرية أبن خلدون، تأسست على أهمية وتأثير الجغرافيا في ما أسماه بالعمران البشري. ثم جاء الوردي متأثراً بأبن خلدون ليؤسس ملامح أول نظرية في علم الاجتماع العراقي متخذاً من الجغرافيا أحد أعمدتها الأساسية-أن لم تكن العمود الأساس-حين جعل صراع الحضارة-البداوة أساساً لتشكيل ما أسماها بالشخصية العراقية.
بالتأكيد لا يستطيع أحد أنكار دور الجغرافيا على الحياة الاجتماعية والثقافة التي تنبثق عنها. فالجغرافيا هي أحد العناصر الأساسية للبيئة التي تعيش فيها أي مجموعة بشرية. لكن المغالاة في تأثير الجغرافيا على حساب العوامل الأخرى هي خطأ علمي منهجي يجب تجنب الوقوع فيه،تماماً مثلما يجب تجنب خطأ الوقوع في فخ التفسير التاريخي لكل الظواهر الأجتماعية. أنطلاقاً من هذا المنهج المتوازن في فهم أهمية الجغرافيا وتأثيرها أنطلق مشروعنا،ولأول مرة تاريخياً، في محاولة لقياس تأثير أهم عوامل الجغرافيا على الثقافة الاجتماعية في العراق. فهل صحيح مثلاً أن الثقافة الاجتماعية العراقية مبنية على أساس الصراع بين الحضارة والبداوة كما وصفها الوردي؟ وهل صحيح أن نهري العراق العظيمين(دجلة والفرات) كان لهما تأثير في الثقافة الاجتماعية السائدة في العراق؟ وهل للتضاريس والمواقع الجغرافية المختلفة في العراق تأثير على الثقافة الاجتماعية لمن يسكنون فيها؟ هذه الأسئلة وشبيهاتها من الأسئلة لم يجر أختبار تأثيرها على الثقافة الاجتماعية من حيث التصلب والرخاوة ليس في العراق فحسب بل في كل أرجاء العالم بحسب أطلاعنا. وسنركز في هذه السلسلة على قياس تأثير البداوة في الثقافة العراقية لكثرة ما يتم تداوله حول هذا الموضوع،تاركاً للقارىء النهم فرصة الأطلاع على تأثير بقية العوامل الجغرافية عند نشر الكتاب.
لم يقتصر الاهتمام بتأثير البداوة على الحياة الاجتماعية على العرب أنفسهم فقط، بل كان هو محور دراسات الأستشراق التي قام بها عدد كبير من المستشرقين غير المختصين بعلم الأجتماع والذين أسهموا غالباً في تكريس صورة نمطية معينة عن البدوي وثقافته. لقد بلغ تأثير الصحراء والبداوة على ذهنية غير العرب أن أول صورة تقفز لذهن معظم الغربيين حينما يسمعون كلمة عربي هي الجمل والصحراء! ويبدو أن عصر تدوين الثقافة العربية الذي أرتبط بظهور الأسلام وما تلاه من تأسيس للإمبراطورية الإسلامية كان له أكبر تأثير في تأسيس هذا الارتباط النمطي بين العربي وثقافة الصحراء. صحيح أن أصل العرب يعود الى الجزيرة العربية التي هي في معظمها صحراء، وصحيح أن لغة العرب والتي تمثل الوعاء الأساس للثقافة العربية أصلها من صحراء الجزيرة العربية، لكن هل من الصحيح أفتراض أن العرب الذين هجروا الصحراء وثقافتها، والبادية وعلاقاتها ما زالوا يحملون(ربما في جيناتهم) تلك الثقافة ومرتكزاتها؟! تعرض العراق عبر تاريخه لموجات من الهجرات من البادية الغربية اليه لأسباب ثلاث كما يعتقد خدوري:تعطل النظم السياسية في البلدان المجاورة، وخصوبة ارض العراق وموقعها الاستراتيجي وغياب حكومة مركزية قوية.فجغرافية العراق أغرت الكثيرين على الهجرة اليه والسكن فيه، لكن هل أدى ذلك الى حصول صراع بين الوافدين والساكنين كما تفترضه أطروحة صراع البداوة والحضارة؟ بل هل هناك صراع أصلاً بين الأثنين؟ سأجيب في الحلقات القادمة.