اعرف إن إقليم كردستان كان ملجاً لملايين العراقيين الذين هُجروا إجباراً من قراهم ومدنهم بفعل القتل الطائفي المنظم أو بفعل الإرهاب. فقد كانت هجرات مختلفة؛ أبناء الدولة من العاملين في دوائر الدولة من النظام السابق الذين كانت حياتهم في خطر، الهاربون من فوضى القتال والانهيارات الأمنية، وعدم الاستقرار المجتمعي. كان الجميع يزحف إلى الإقليم بحثاً عن الأمن والآمان، وكان الإقليم يحتضنهم بأبوة رغم ظروفه الاقتصادية، والمخاطر الأمنية بفعل هذه الهجرات.
أعترف بأنني كنت أجهل التفاصيل الدقيقة عن بعض المسؤولين الكرد الذين احتضنوا النخب العلمية والثقافية والإعلامية في الإقليم لمساعدتهم على تمشية أمورهم الحياتية بشكل لائق يتناسب مع مكانتهم وخدماتهم التي قدموها إلى الوطن، والذين عانوا من إهمال الدولة المركزية لهم، حتى وصل الحال بالكثير من المبدعين الإيواء في ملاجئ كبار السن، أو في البيوت المهجورة، ومنهم من مات وهو تحت قناني الأوكسجين، أو لم يستطع شراء دواء ينقذه من الموت.
عندما زرت أربيل مؤخراً، عرفت حقائق عن رجال نخوة؛ أفعال مضارعة مرفوعة بالشهامة الإنسانية، وحكمة كردية تتعطر بالعطاء والنبل والتسامح، ورأيت شعباً منفتحاً على الآخر، متسامحاً مع من يعيش في مدنهم من كل الطوائف والقوميات والأديان، ورجال يؤسسون وطناً راقياً بالتسامح والمنجزات والتنظيم والاستقرار.
لقد سمعت من أصدقاء أعزاء، ومن مبدعين أحتضنهم الإقليم، قصصاً كثيرة، ومآثر لقادة كرد صنعوا بيوتاً للاستقرار لهم، ومعاشا لإدامة الحياة، وفتحوا أبواب الخير لأنبياء الحرف والجمال. ولولا كبرياء البعض، وإحراجات الموقف، وخجل المبدع، لعددت أسماء الكثير منهم الذين يعيشون اليوم بكرامة في ظل الأقاليم، وينعمون بخيراته، وهم من أهل العلم والفكر والثقافة والطرب وكتّاب الأغاني. فالشكر واجب لأصحاب العطاء والخير، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.
وكما سمعت ورأيت في الواقع، فأن السيد نيجيرفان البرزاني رئيس أقليم كردستان، له الفضل في انتشال الكثير من النخب العلمية والثقافية من الفاقة والجوع والتشريد، وتوفير البيئة الحياتية الصالحة لهم للعيش الكريم. هو من قام بصناعة السعادة في نفوس الكثير من المبدعين، فأعاد لهم طاولة الكتابة من جديد، وأشعل لهم ضوء الحياة، وقتل اليأس في نفوسهم بهدف عودتهم إلى الإبداع. بل أعطى درساً بليغاً مفتوحاً بالإنسانية لمن قتل المبدعين، وأهان العلم والعلماء وشردهم من بلاد الموطن، وطمس حقوق النخب الثقافية بالجوع والاستبداد والقهر، وغلق منافذ الحياة بالجهل والغيبيات.
وبدراسة شخصية كاكا نيجيرفان؛ فهو شخصية كردية وطنية لها كاريزما قوية، يمتلك رؤية الحاضر والمستقبل، منفتحة على العصر، معتدلة في توجهاتها، ومتسامحة مع نفسها، شخصية هادئة ورصينة في سلوكها السياسي، ذات طاقة إيجابية، متواضعة في سلوكها العام، مبدعة ومبتكرة، قادرة على التواصل الفعال مع الآخرين بسبب الثقة في النفس، والجاذبية والذكاء الاجتماعي الذي يرتكز على القدرة والفعل والأداء والكفاءة.
لذلك عندما طرح اسمه لرئاسة الجمهورية نال ثقة الشعب وإجماعه، وهي ظاهرة فريدة لم تحصل في الحياة السياسية في العراق، كما لم يحصل أحد عليه من المرشحين، فقد استبشر به شعبياً ورسمياً لقيادة رئاسة العراق، ونال رضا وموافقة معظم الأحزاب والسياسيين أيضاً. ولولا عدم أجادة السيد نيرجيرفان اللغة العربية لكان هو المرشح الأقوى الذي كان سيدخل بوابة رئاسة الجمهورية بسهولة ويسر، دون مناكفات سياسية أو مماحكات شعبية بسبب شخصيته المتوازنة والمعتدلة.
سأقول كلاماّ من الآخر بلغة الضمير والحقيقة، ما يقوم به قادة الإقليم من انتشال رجال الأبداع والفكر من كل التخصصات والطوائف والأديان من الجوع والفقر ورثاء الحال هو موقف إنساني يسجل لهم، وهو بالتأكيد قناعة راسخة بمعرفتهم بأن وجود رجال الإبداع هو جمال يضئ مدنهم المبهرة بزجاج العمارات الشاهقة، ويزيد من سحر هندسة المدن والملاعب والشوارع والمنتزهات المعطرة بالزهور والياسمين.
أنا اتحدت عن موقف إنساني موجود على الواقع. أتحدث عن زراعة الأمل كعقيدة وفكرة وموقف في نفوس المبدعين الذين هجَّرهم جهلاء السياسة، وأعداء الثقافة والحياة من أمكنة الولادة والذكريات. أتحدث عن أنسان الأمل، والانعتاق من ضيق اللحظة.
الأنسان أكبر من الحديث عن السياسة والنفط. قد نختلف أو نتفق بما يجري بين الإقليم والدولة الاتحادية. والقضية هي مثار جدل مستمرة حسب زاوية الرؤية والاتجاه، سواء بمنطق الحقيقة أو التعصب.
ما قام به كاكا نيجيرفان في احتضانه للأبداع، ومنح الأمل للمبدعين في العيش بكرامة يستحق الإشادة والتقدير. فنحن مع من يمنح الأمل للإنسان المظلوم، ومع الحقيقة التي تنطق بالخير. قد تُؤلم الحقيقة من تَعّود على الأوهام، لأن الحقيقة هي الحقيقة وان كان الجميع ضد واحد” كما يقول غاندي.