في ديوانه (منازل أخرى للدهشة) هناك محاولة لبناء الشعري واستنباته من العادي والبسيط والهامشي، من الأشياء التي تنبت خافية على حواف الموضوعات والتوجهات الكبرى، فالديوان احتفاء بالبسيط والهامشي، ومحاولة لتجذير الهامش وإدخاله في المتن، وهذه المحاولة لا ترتبط فقط بالأشياء البسيطة في الحياة التي يمكن أن تكون غائرة لا ينتبه إليها الكثيرون، ولكن قد تمتد لتشمل الفن الشعري، وآليات الكتابة وأشكالها، حيث يرتبط الأمر بالأنواع الشعرية، وهامشية النثري في مقابل الشعري جهير الصوت والإيقاع.
فعنوان الديوان (منازل أخرى للدهشة) يوجه نحو مقاربة مغايرة، تحتفي بالخافت الذي لا يمكن الإمساك به أو تكديسه في شكل بسيط، ولكن يمكن مراقبته أو الشعور بدبيبه أو وجوده في رصده وسرده من خلال عناية خاصة بالفلسفي والجوهري الذي يظهر في الوقوف أمامه طويلا من خلال النصوص الشعرية عند الكتابة الشعرية وأشكالها المؤسسة التي تتعانق مع السلطة، فيتولّد لها في إطار ذلك سلطة موازية. ففي هذا الديوان هناك احتفاء بالشاعر وصورته، واختيار لشريحة معينة من الشعراء يتماهى معها، ويعلن انتسابه إليها، فهم الهامشيون المنبوذون بسبب الاختلاف، أو بسبب تقديم رؤية مغايرة للسائد والمستقرّ.
يبدو ذلك واضحا وجليا من النص الأول (أنا خمسة) في اختياره الخاص بشريحة معينة ينتسب إليها، ويشير إلى الحلّاج /الصليب، وإلى حادثة الصلب، وحرقه وإلقاء رماده في نهر دجلة، وكأن حادثة الصلب- في منطق النص الشعري- أصبحت نكالا جاهزا لكل من يأتي بأي بادرة تخالف المؤسس. ومن ثم يجد القارئ قصائد عديدة تؤسس لمقاربة الشاعر/ الظل مقاربة خاصة بحيث تؤسس له هالة شبيهة بهالة الملائكة، ولكنها مشدودة إلى سياقها ومندمجة فيه، على نحو ما يمكن أن نرى في نصيه (تصلي الأرض من أجله)، و(خواطر ليست بريئة).
وفي هذا الديوان هناك سمة شبه أساسية تتمثل في الغنائية اللافتة التي لا تتولّد فقط من التفعيلات الموزونة التي يكسرها عامدا في بعض الأحيان لإثبات النثري في مقابل التفعيلي، وإنما تتولّد في هذا الديوان من احتفائه بالإنساني، فهناك وقوع على مناطق وجزئيات إنسانية تحتوي على مشترك إدراكي، فالغنائية في قصيدة النثر المصرية على نحو خاص يشعر بها المتلقي من خلال الاتكاء على رموز شبه جاهزة، ففي قصيدة (تعير الماء ملمسها) يطالع المتلقي رمز البحر وتأسيساته في الشعريات السابقة، وارتباطه بالعطش والظمأ، وارتباط هذا الرمز بما يشابهه في اللون مثل السماء أو الزرقة، ومن خلاله تتشكل رموز خاصة بالظمأ، وارتباط ذلك بالبحر والسماء. فالغنائية في قصيدة النثر لا تأخذ شكلا إيقاعيا فقط، فهذه الغنائية وثيقة الصلة بمشترك إدراكي إنساني عام، وبجدل الرموز وتناسلها من شاعر إلى شاعر، ومن فترة زمنية إلى أخرى، فيصبح لدينا نسيج بنائي لا يكفّ عن الإشارة إلى دلالات تتحرك، وتطلّ جلية أثناء القراءة.
يجد القارئ نفسه أثناء قراءة الديوان مأخوذا بثقافات عديدة، وأساطير يخلخلها من دلالاتها المعهودة، لكي يعيد توطينها وتفعليها وفق سياق جديد، فكأن النص الشعري وفق هذا التوجه يعطي للواقع وجزئياته قيمة موازية للأسطورة من جانب، ومن جانب آخر يجعلها تغادر ثباتها البنائي القديم، من خلال إجراء التعديلات والتحويرات تحت فاعلية سلطة الأنساق المعاصرة، واستنادها إلى متخيل جاهز للحركة يباين الدلالات المؤسسة.
الشاعر وعلاقات التشابه والتناظر
ثمة قصائد في الديوان تحتفي بالحديث عن الشعر والشاعر والأنماط الكتابية بشكل مباشر أو بشكل عرضي، فهناك قصائد تؤسس لمنهجية المغايرة والاختلاف عن القديم، وحتمية الانتقاء من هذا التراث، والتخلص من الأشياء البالية التي لا تحمل قدرة على الاستمرار وإعادة الاندماج وفق واقع آني معاصر، لأن الإبقاء عليها يصبح عاملا من عوامل الثبات، ويشكل إعاقة للحركة. وفي هذا الديوان هناك نصّ بالغ الدلالة على هذا المنحى الإبداعي في النظر إلى الشعر خاصة، وإلى التراث بشكل عام.
فحين يقرأ المتلقي قصيدة (حذاء أبي) يجد نفسه أمام تداعيات دلالية عديدة، وربما يكون في مقدمة هذه التداعيات سرديات حذاء (الطنبوري)، ونتيجة الاحتفاظ به وما حل بصاحبه من كوارث وعثرات عديدة وخسارات. القصيدة بالرغم من هذا الإلماح نتيجة للسرديات المصاحبة للكلمات ووعينا بها، لا تنحو هذا المنحى، ولكنها تتخذ منه ذريعة في التخلص من الشوائب والكراكيب التي تلازم الإنسان دائما، وتكون عائقا، دون حاجة ملحة أو فائدة آنية، فالنص يشير إلى آلية البناء والهدم في آن، لكي يكون هناك مجال أو قدرة على الحركة بعيدا عن كراكيب الماضي.
والنص وإن تعلّق بحدود الحياة لارتباطه في صورته النمطية بحذاء الأب، ولكنه يحيلنا أيضا إلى طبيعة الفن، التي يجب أن تنحرف عن توجهات الأب أو الجد، خاصة حين نستحضر نص أحمد عبدالمعطي حجازي (الأمير المتسوّل)، وحديثه عن الأب والابن واختلاف صورتيهما ارتباطا أو انطلاقا من سياق حضاري والتوجهات الإبداعية المغايرة، فنص حذاء أبي نص ضد الثبات، ومديح للحركة الدائمة، لهذا يختم الشاعر نصه بهذه الدعوة للتحرر (حذاء أبي – كان مثقوبا حدّ الغرق والتعثر- ومعه رسالة كانت تقول:- أمامك مستنقع- وخلفك مفازة- ورأسك محشو بالرصاص- أطلق رصاصك -على الريح والغربان- واتخذ منها حاجتك- واعبر).
في إطار هذا المنحى يمكن للقارئ أن يراقب توجهات عديدة لإسدال المغايرة الكتابية من جانب أول، ومن جانب ثان يمكن أن نلمح نمطا أو أنماطا من الصراع بين الفن الفاني والمتفسخ والمتلاشي وبين الفن الباقي ضد الزمن. ففي نص (الحشاشون) هناك تأسيس للمغايرة والاختلاف، وفي نص (يكرهني) يأتي الصراع واضحا بين البشري والجسدي (الإنسان) والعلوي (الشاعر) للسيطرة على الحركة والتوجه، فالأول مشدود لأنساق قامعة في السلوك، والآخر لا يقيم وزنا أو يعطي قيمة لهذه الأنساق.
يتمثل التوجه الأول فيما يمكن أن يعدّ هجوما مبطّنا ضد تقليدية الكتابة والمقاربة الشعرية، ففي قصيدة (لا تبالغ) هناك إشارات لسمات الشعرية الخاصة بالشاعر، واختلافها عن الشعرية المنضدة المملوءة بالطنين الإيقاعي، من خلال رؤية مقابلة للتقليدية من خلال صفات محددة، يسدلها النص الشعري على الحداثية الخائبة غير القادرة على النفاذ إلى المتن، وابتعادها عن (عروض الطنين)، وفي نص (فراغات كثيرة) يتوجه النص الشعري نحو تعرية المؤسس في مفهوم الشعر وماهيته، ليحيلنا إلى جزئية مهمة ترتبط بصعوبة تفسيره أو الوصول إلى كنهه، ولكن يمكن الشعور بدبيبه أو الإحساس به، لأنه ليس ثابتا، وإنما متحرك، فالشعر يتعاظم على التنميط والثبات في مكان، يقول الشاعر( كل ما أعرف عن الشعر- عندما يعود أبي من العمل-يربت على كتف أمي- تظل تتمتم بحروف مبهمة- وتبتسم).
في مثل هذه القصائد تتولّد محاولة لاصطياد الشعر، محاولة نابعة من الانتساب إلى الهامش، أو إلى الخافت الذي يشعرك بالمغايرة، فالشعر هنا رهين الجزئيات البسيطة التي يحسّ بها بمفرده، وبتكونها الداخلي دون جلبة زاعقة. وفي ظل هذه البساطة يمكن تفسير عناوين قصائده التي تعطي مدلولا للوهلة الأولى لا يقرّبها من مناحيها الفكرية التي يمكن أن تتولّد بعد عملية قراءة النص كاملا، وهي عناوين لا تعبر عن الاحتشاد، وتكتفي أن تقف عند إشارة بسيطة تحيلك إلى دلالة ما بعد تفكير طويل.
يأتي التوجه الثاني في مقاربته للشعر والشاعر متمثلا في وقوفه من خلال بعض النصوص الشعرية عند تصوير الشاعر، ذلك الكائن الذي لا يمكن تجسيده في إطار محسوس، ففي نصه (لا ظل له)، سوف يقف المتلقي طويلا أمام التحديدات التي تغيّب بدلا من أن تكشف وتحدد كيانا جسديا كاملا، وسوف يتساءل القارئ عن الصديق الذي لا يموت، ولا ينتبه الموت له، ولا تلتقط المرآة صورته أو حدود جسده، وليس له ظل يرافقه. من خلال معاينة هذه الصفات يدرك القارئ أنه أمام كيان ليس من لحم ودم، وإنما أمام كيان متخيل، نعرفه لكننا لا نلمسه، نحس بدبيب حضوره وأفعاله المخالفة والمغايرة لنسق التواصل المؤسس والمعروف.
تتأسس مشروعية لهذا الفهم من خلال بعض الصور البسيطة التي تتوالى خارقة للنسق، مثل صورة (يحدّث الله خفية)، فيتكون له – نتيجة لذلك – إطار أقرب إلى القداسة، وهنا تلحّ فكرة الشاعر واختلافه عن البشر الذين يرفلون تحت قانون الموت والدفن. ويمكن أن نجد شبها بهذا المنحى في نصوص أخرى، منها نص (يشبه الإشارة)، وفيه تتأسس حدود المقارنة بين الإنسان المحدود بتواصل خاص مقموع، وذلك الكائن/ الشاعر، في خروجه عن النمطي من خلال تواصله مع الملائكة، يقول الشاعر (أشكّ كثيرا في ظلي/ كاد أن يوقع بيني/ وبين/ رجل طيب/ أعرف أنه يراسل الملائكة).
ولكن الشاعر في ديوانه من خلال نظرة متأنية لمجمل النصوص التي تؤسس لهذا المنحى بشكل مباشر أو غير مباشر، لا يقدم لنا الشاعر محاطا بهذه الصورة المقدسة وكأنه منفصل عن الحياة، لكنه يلحّ في إطار هذه القداسة مشدودا إلى سياقه، ومتورطا بمجمل القضايا الجمعية والذاتية، فنراه يقول في نصه (تصلي الأرض من أجله) (يبتهجون عندما يرقد الجسد المطعون/ على مذبح الكنيسة/ يتنازعه شيخ المسجد/ والقس/ وشيطان الشعر/ بينما يبكي بيت قديم رائحة عرقه/ وأغنياته عن رام الله/ التي تركض إليه من مائة عام).
فالقارئ يعاين كيانا خاصا ذا قداسة، لكنه موجّه الخطوات نحو سياقه ومنطلق منه، فليس هناك غناء للغناء، وإنما غناء متجذّر في تراث جماجم التتار، وفي مجمل الأحداث التاريخية التي شكلّت سياقا مرّ بها المنتمون إليه عبر التاريخ. ويتجاوب مع النص السابق نص (خواطر ليست بريئة)، حيث يولّد التلقي حركة نحو الشاعرية أو الشاعر المملوء بالوهج الملائكي، ولكنه وهج الاختلاف الذي ليس لديه ترف التخلص من السياق الحضاري الممتد عبر الأزمنة، بداية من المحن الخاصة بالموريسكيين واليهود، من خلال انشغاله بقراءة كف أميرة أندلسية، عندما يشير إلى المنحى الملائكي الذي يحمل بشارة الاختيار والاختلاف من خلال البجعة التي تطير فوق رأسه (لتسترد فرخيها/ بينما أنت مشغول بقراءة كف أميرة أندلسية/ تجلس على طرف مضيق جبل طارق/ تنتظر بحّارا/ كانت ترسمه على رمل الشاطئ/ وتتركه للمدّ/ وفي النهاية سوف تسمّيك/ باسمه الذي لن يعود/ وتعرف يهوديات أسبانيا الجميلات/ أن الشاعر يطير فوق الماء/ هكذا…)
فصورة الشاعر في هذا الديوان وإن جاءت مملوءة بإطار ملائكي مقدس، لا تتحرر من سياقه الآني، فهو في هذا النص ذاته موزّع بين كيانين في احتفائه وارتباطه بالمرأة، فهناك إشارة إلى (عرائس الماء)، وسحر الجنيات في سردية أوديسوس، وهناك إشارة- أيضا- في المقابل إلى المرأة التي تظل بعيدة مثل إله، وتسكنه بشكل خاص لا يبارحه، فهي تتشكل في حدود حنجرة يتوجه بها نحو آلهة لتشكيل ملامح امرأة تسبح في مجرى شريانه ودمه.
إن وجود الصراع بين الشاعر والإنسان من خلال الفاعلية لرصد العالم والسيطرة عليه يؤدي دورا مهما في محاولات التحوير والتعديل التي يمارسها الشاعر حتى يستجيب الواقع لنمطه المثالي الذي لا يتنازل عنه، حتى لو وقف الأمر عند حدود الخيال. ففي نصه (تأبط مغارة)، هناك بساطة شعرية، لكنها بساطة لا تعطي دلالتها التي تتكشّف عن مشروعية، إلا من خلال قدرة سحرية فاعلة تتمثل في المغارة بوصفها أداة يستند إليها السارد في عمليات القدرة على التحويل والتغيير، في إحلال أنثى مكان أخرى. فالنص لا يحتوي على امرأة واحدة، وإنما يحتوي على امرأتين، إحداهما حاضرة واقعا، ولكنه يغيبها بإحلال أخرى، فمن خلال السطر الأول (تفقد عطرها)، بالإضافة إلى (الفوز في الرهان)، و(رمي النافذة خلفه) تبدأ المرأة الأخرى المصنوعة من التخيل وسحر المغارة في التشكل (كانت تحبو وحيدة نحوها)، بحيث يُفقد النص الشعري المرأة/ الواقع وجودها بالتدريج، وتزداد مكتسبات السارد من خلال الوردة بدلالتها المعهودة، والوِرد بوصفه لهاثا وغناء واستعطافا وصلاة نحو المرأة/ المثال التي تتحرك نحو الغياب التدريجي بعد إتمام الفعل أو التداخل الذي ما كان له أن يتمّ في حضوره الغني دون عملية الإحلال أو التحوير التي تمت.
يؤسس النص الشعري في هذا الديوان فرادته من خلال القدرة على إدراك علاقات التناظر أو التشابه بين أشياء، لا يتمّ الجمع بينها إلا في إطار شعري بعيدا عن المستوى الظاهري النمطي. ففي نص (عناوينهم السرية) يقيم الشاعر تناظرات وعلاقات بين مرتكزات ومنطلقات منفصلة على المستوى الظاهري، ولكن الشاعر وحده يستطيع أن ينفذ إلى هذا التشابه، ويخلقه دلاليا، ويتولّد نتيجة لذلك إطار للمشابهة والجمع بينها بحيث يضعها في نسق واحد. فعلى المستوى الظاهري ليس هناك تشابه بين رئيس التحرير العجوز/ ورقيع القرية/ والناسك، ولكن بناء النص يؤسس لذلك التشابه من خلال الصفات المسدلة على الأول (رئيس التحرير العجوز)، وعلى الأخير( الناسك)، ويبقى الثاني (رقيع القرية) خاليا من الصفات المسدلة.
يأتي هذا التحديد والوضوح في القسيم الثاني، وكأنه المحور الأساس في تشكيل شبكة علاقات جامعة بينه وبين الأول والأخير، وفي تفجير وتشكيل بنية التشابه، فالصفات المسدلة إلى الأول والأخير تشدهما إلى الرقيع في وضوحه وظهوره، فكلاهما يبتعدان عنه من خلال ألاعيب الفارق بين الظاهر والباطن، أو المعلن والمتواري، والنص الشعري من خلال الترابط المقترح المشدود إلى مركز كاشف وجامع المتمثل في رقيع القرية، يعرّي ويزيل المساحيق، ويضعنا وجها لوجه أمام بنية تخيليية تهشّم المثالية الزائفة، وتفقد فاعلية الرقص على الحبال قيمتها وجدواها.
تذويب الأسطوري بالواقعي
يؤسس النص الشعري في هذا الديوان تفرده من خلال آليات عديدة، منها ارتباطه بالخافت المهمش، ووضعه في الصدارة وفقا لزاوية الرصد التي تبتعد عن الواضح الظاهر للآخرين، ومنها أيضا ما يمكن أن نطلق عليه تذويب المؤسس الأسطوري، وخلخلة دلالته المستمرة من خلال التحوير، وإدخالها في شبكة علاقات وبناءات جديدة، وهذا يشير إلى أن الأساطير في الأساس أحداث عادية تمت أسطرتها، لكنها منطلقة من الواقعي، وتمثل رصدا لقوى موجودة داخلنا، ويكشف الواقع عن ديمومة وجودها وخلقها، من خلال تتمددها مع الإنسان في تشكلات جديدة، ولكنها تظل مشيرة إلى جذورها وانبثاقاتها الأولى.
ففي بعض الأحيان يأتي تذويب الأسطوري وخلخلة دلالته مرتبطا بشيء آني يقوم على رصد تحولات الوعي، من مرحلة إلى مرحلة، ومن وعي فطري إلى وعي تجريبي، فأسطورة الشجرة التي تتحول إلى حية، أو الحية التي تتحول إلى شجرة، يتمّ الاستناد إليها وتذويبها لصالح معطى حداثي يرتبط بالإنسان وقدراته المعرفية المرتبطة بعمره الزمني وبوعيه. ففي نص من نصوص الديوان (جسد متعب) يأتي العصفور الأخضر – بما يشير إليه لونه وديمومة وحتمية الغناء- في حلم الأم مرتبطا بالوعي الفطري، ومدارات الإدراك الأولى، ويأتي حلمها في القيلولة- معادل النمو والإدراك النامي- كاشفا نتيجة للنزال مع الواقع عن حيّات كثيرة، فوجود الحيّات في مقاربة الواقع وجود لوعي تجريبي مغاير يظل مستمرا، ولكنه يظل بالرغم من ذلك مشدودا لحالة البراح الأولى المرتبطة بالخضرة، وعدم المعرفة، حيث يعاينها خيالا ماضيا، يقول الشاعر في نهاية نصه مشيرا إلى عذابات النزال والمعرفة (وما زالت الحيات/ تطارد ظلّ العصفور/ وهو ما زال/ يبحث في الغابة عن شجرة يلقي عليها/ جسده المتعب/ كل الأشجار/ أفعى واحدة/ ورؤوس كثيرة).
في الديوان أيضا هناك مساحة من الاشتغال على الأساطير اليونانية القديمة، فالقارئ لن يستطيع الوصول إلى قيمة التشكيل الشعري في نص (منازل أخرى للدهشة) إلا من خلال استحضار أسطورة ليدا والبجعة، حيث تشكّل( زيوس) كبير الألهة في شكل بجعة ليضاجع (ليدا) التي تنجب من جماعه توأما إلهيا (بولوكس) والجميلة (هيلين)، وتنجب في الوقت ذاته توأما بشريا (كاستور) و(كلايتيمنيسترا) من زوجها (تنديروس) في اتصال بشري، ولهذا يعدّ بولوكس وفقا للإله زيوس خالدا مثله، وقد اشترط بولوكس على أبيه زيوس تقاسم الخلود مع أخيه كاستور (ابن تنديروس البشري)، وقد لبى زيوس طلبه، فتقاسم الأخوان عالمي الحياة والموت.
وليست القيمة هنا في استدعاء الأسطورة اليونانية، ولكن القيمة تتمثل في تذويب الأسطورة، وإعادة تفعيلها وتخصيبها داخل أفق معاصر، يستند إلى واقع حياتي معيش في توليد مسوح متعالية متأبية عن التحقق للفاني البسيط والمتحلل. يتجلى ذلك في معاينة الصور البسيطة التي تؤكد حضور النسق الأسطوري، بداية من قوله ( في البدء كان باب السماء/ بين نهدي امرأة/ كان العارف بالمعراج/ يمرّ بين قوسين/ ويهمس كمجذوب)، ومرورا بقوله (بينما البجعات تحدف بياضها/ لمن يوقظ الرعشة/ في عصب الغياب)، وانتهاء بالصور والجزئيات التي تحرّف وتحوّر في الأسطورة، وتصبح مشدودة إلى واقع معيش.
يتأسس للمرأة الفانية في المستوى العادي والنمطي، وجود جديد في ظلّ ذلك التحوير والتعديل، فتتحول إلى حلم (يلقي سنارته ربما يصطاد حلما)، وتتحول إلى سبب للتشظي والصراخ والمطاردة (أو يلتقط منه حنجرة/ يصرخ بها كي يستعيد/ امرأة هاربة/ تشبه بحرا). فالنص هنا استنادا في التحول من بشري فانٍ إلى إلهي له صفة الخلود، يلقي بهذه الصفات وذلك التأثير على المرأة حين تتعاظم عن التشكل واقعا، فتتحول إلى حلم، يحاول تجميعه وتثبيته وإلصاقه على كل وجه ( وتتسع امرأة للرعي/ امرأة خضراء/ تملك فتنة لا تموت),
في بعض القصائد لا يكون الاشتغال ماثلا في تذويب الأسطورة، وتحويرها من دلالتها إلى دلالة آنية معاصرة، بل يتحوّل الأمر إلى استدعاءات تراثية وأدبية لها دلالتها الراسخة في السياق الأدبي، من خلال الإشارة إلى مقابلها الآني التي تحاول تقليم نزوعاته نحو الزائف، عن طريق التباين أو المعارضة. ففي نص (لم تكن سيلفيا بلاث) نلمح أن الاستدعاءات التراثية بداية من سكون أهل الكهف، وتقلبّهم ذات اليمين وذات الشمال بشكل يكشف عن الراحة، لنجد في النقل المعاصر الحركة الدائمة المرتبطة بقلق الكوابيس، ومرورا بتفريغ الدلالة الكامنة بشخصية الشاعر (ديك الجن) والمرتبطة بقتله لجاريته (ورد) استنادا إلى طهارة شكلية، وانتهاء بسليفيا بلاث الشاعرة المنتحرة، بسبب- في منطق صورتها المرصودة في تاريخها الأدبي- سطوة الذكوري في مقابل النسوي.
فتعرية الذات هنا تبدأ بنفي التشابه مع النماذج التراثية والأدبية بدلالاتها المعهودة، يتجاوب في جزء منها تعرية تلك النماذج نفسها، فالإشارة إلى نموذج الطهارة من خلال لوحة العذراء كما قدمها سلفادور دالي لا ترتبط بالطهارة أو أبدية العذرية، فقد وضع في لوحته (جالا إيلرود) المعروفة والمشهورة بتعدد علاقاتها، أثناء زواجها من زوجها الأول، قبل أن تتزوّج سلفادور دالي نفسه، وتتحوّل إلى ملهمة له تحمل سمات القداسة.
تعرية النماذج بشكل متعمد من خلال عرض المقابل الآني تعرية للذات الساردة، فسليفيا بلاث نفسها التي يأتي ذكرها في العنوان، لا تتكوّن لها دلالة في النص الشعري، يمكن تفريغها من مضمونها الأساسي على الجانب المقابل، ولن يتشكل لها دلالة قارة وفق البناء- بعيدا عن السائد والمقرّر عنها- إلا من خلال وصية الحطيئة التي كتبها في مرض موته، فقد أوصى أن توزع ثروته بين أولاده البنين والبنات بالتساوي.
ومع ذكر الحطيئة في النص الشعري سوف يتولّد لحركة المعنى في تلقي النص توجه جديد، يرتبط بالشاعر وقيمته وقيمة شعره بعيدا عن النسب، وعن مجمل الأشياء المصاحبة الأخرى. فإذا كانت والدة السارد في النص الشعري ليست سيلفيا بلاث، وهو ابن الحطيئة، ووالدة الحطيئة كانت جارية فسوف تتأكد لنا مشروعية التلقي، وأن هذه التعرية للذات وللآخرين الذين تمّ ذكرهم في السطور الشعرية تعرية لكل السياقات التي ترفع شعراء لا يرفعهم شعرهم، فكأن النفي أو الإثبات للإبداع من خلال أسس غير فنية خال من القيمة، ما لم يكن هناك صوت شعري متميز من الناحية الفنية.
فالشعر- في منطق النص الشعري- له خصوصية الانتماء إلى الآخرين من المهمشين والبسطاء، والعناية بهم والتعبير عنهم، والإشارة إلى الأنماط الجائرة التي تحكم سيرهم، ومن هنا تلحّ القيمة الأساسية في توحّد الشاعر بإيزيس بوصفها أمّا حامية، يقول الشاعر في نهاية النص الشعري (الآن تستطيع أن ترقص/ بكامل ملابسك/ فوق السرير/ وترسم على حائط الغرفة/ إيزيس بكامل فتنتها/ وهي تطهو للملائكة/ وأطفال الشوارع/ حبّات أرز/ نبتت فوق سرّتها).
يمارس الشاعر التحوير ذاته في الدلالة لقصة الخلق والسقوط، ففي قصيدته (كأن شيئا لم يكن) يجد القارئ نفسه أمام نوع من البساطة التي يمكن أن تكون خادعة، فتأمل هذا النص قد يشدّ المتلقي إلى دلالات ترتبط بالوجود الإنساني، حيث ينفتح النص وفق متخيل قديم يرتبط ببداية الخلق وأسطورة السقوط، ولكن النص لا يعرضها بشكل واضح، أو وفق دلالات قديمة ثابتة، بوصف المرأة أو حوّاء نموذجا للإغواء وسببا للسقوط، ولكنه يقدمها وفق سطوة جديدة معاصرة، كأنه –أي النص- يمارس تعديلا للإشارة إلى الظلم والجور الذي طال المرأة لأزمنة طويلة، فالسطور الأخيرة المعبرة عن عدم اهتمام الفتى/ الرجل بقيمة ما يفعل أو ما يحدثه من انتهاك حيث يقول (يلملم البكاء/ ثم يسكبه في عيون الأرض/ ويشعل سيجارته/ وكأن شيئا لم يكن) تجعلنا نعيد قراءة النص وفق توجه يغيّر في ملامح الأسطورة، أو يعيد طرحها في سياق كاشف عن المراجعة أو إعادة النظر.
وفي ظلّ العناية بالكلمة وارتباطاتها الشعرية وسرديتها الحاضرة، سوف يجد القارئ أن هناك نصوصا تستدعي أسئلة لها ما يبررها، على نحو ما يمكن أن نرى في نص (الحشاشون)، وسوف يلحّ السؤال عنهم، وعن طبيعتهم، فهل هم أصحاب المذهب المعروف؟ أم أن الدلالة تنحو منحى يرتبط بالشعراء؟ والتفسير الأخير له ما يبرره، حين نتأمل الصفات المسدلة عليهم (يمرّون كهواء خفيف)، و(لا يلتفت كلب الحي لهيئتهم)، فهذه الصفات تجعلهم خارج النمط المعهود للبشر، فهم كالهواء الذي لا حيّز له، ولا ينتبه لوجودهم أو جسدهم الكلاب.
وفي الفقرة الثانية تتجلى صفاتهم في إطار متجاوب، من خلال اللطف والروائح التي يخلفونها التي تنتج الخدر اللذيذ، وتستدعي الصفات السابقة نوعا من المشروعية للسؤال من الفتاة (من هؤلاء يا أبي). فانطلاقا من المغايرة في التعامل والرحمة التي يقدمونها لقطة الجارة، يتشكل لهم إطار وثيق الصلة بالشعر والإبداع، فالحشاشون- في ظل أو منطق النص الشعري – يشيرون إلى الشعراء في مرورهم الهش والبسيط، ووجودهم المرتبط بدفق الحياة وحتمية استمرارها.مقالي غدا الأحد بالقدس العربي 6نوفمبر 2022
تذويب الأسطوري بالواقعي وعلاقات التشابه والتناظر
في
منازل أخرى للدهشة
للشاعر عبدالله راغب أبوحسيبة
عادل ضرغام
في ديوانه (منازل أخرى للدهشة) هناك محاولة لبناء الشعري واستنباته من العادي والبسيط والهامشي، من الأشياء التي تنبت خافية على حواف الموضوعات والتوجهات الكبرى، فالديوان احتفاء بالبسيط والهامشي، ومحاولة لتجذير الهامش وإدخاله في المتن، وهذه المحاولة لا ترتبط فقط بالأشياء البسيطة في الحياة التي يمكن أن تكون غائرة لا ينتبه إليها الكثيرون، ولكن قد تمتد لتشمل الفن الشعري، وآليات الكتابة وأشكالها، حيث يرتبط الأمر بالأنواع الشعرية، وهامشية النثري في مقابل الشعري جهير الصوت والإيقاع.
فعنوان الديوان (منازل أخرى للدهشة) يوجه نحو مقاربة مغايرة، تحتفي بالخافت الذي لا يمكن الإمساك به أو تكديسه في شكل بسيط، ولكن يمكن مراقبته أو الشعور بدبيبه أو وجوده في رصده وسرده من خلال عناية خاصة بالفلسفي والجوهري الذي يظهر في الوقوف أمامه طويلا من خلال النصوص الشعرية عند الكتابة الشعرية وأشكالها المؤسسة التي تتعانق مع السلطة، فيتولّد لها في إطار ذلك سلطة موازية. ففي هذا الديوان هناك احتفاء بالشاعر وصورته، واختيار لشريحة معينة من الشعراء يتماهى معها، ويعلن انتسابه إليها، فهم الهامشيون المنبوذون بسبب الاختلاف، أو بسبب تقديم رؤية مغايرة للسائد والمستقرّ.
يبدو ذلك واضحا وجليا من النص الأول (أنا خمسة) في اختياره الخاص بشريحة معينة ينتسب إليها، ويشير إلى الحلّاج /الصليب، وإلى حادثة الصلب، وحرقه وإلقاء رماده في نهر دجلة، وكأن حادثة الصلب- في منطق النص الشعري- أصبحت نكالا جاهزا لكل من يأتي بأي بادرة تخالف المؤسس. ومن ثم يجد القارئ قصائد عديدة تؤسس لمقاربة الشاعر/ الظل مقاربة خاصة بحيث تؤسس له هالة شبيهة بهالة الملائكة، ولكنها مشدودة إلى سياقها ومندمجة فيه، على نحو ما يمكن أن نرى في نصيه (تصلي الأرض من أجله)، و(خواطر ليست بريئة).
وفي هذا الديوان هناك سمة شبه أساسية تتمثل في الغنائية اللافتة التي لا تتولّد فقط من التفعيلات الموزونة التي يكسرها عامدا في بعض الأحيان لإثبات النثري في مقابل التفعيلي، وإنما تتولّد في هذا الديوان من احتفائه بالإنساني، فهناك وقوع على مناطق وجزئيات إنسانية تحتوي على مشترك إدراكي، فالغنائية في قصيدة النثر المصرية على نحو خاص يشعر بها المتلقي من خلال الاتكاء على رموز شبه جاهزة، ففي قصيدة (تعير الماء ملمسها) يطالع المتلقي رمز البحر وتأسيساته في الشعريات السابقة، وارتباطه بالعطش والظمأ، وارتباط هذا الرمز بما يشابهه في اللون مثل السماء أو الزرقة، ومن خلاله تتشكل رموز خاصة بالظمأ، وارتباط ذلك بالبحر والسماء. فالغنائية في قصيدة النثر لا تأخذ شكلا إيقاعيا فقط، فهذه الغنائية وثيقة الصلة بمشترك إدراكي إنساني عام، وبجدل الرموز وتناسلها من شاعر إلى شاعر، ومن فترة زمنية إلى أخرى، فيصبح لدينا نسيج بنائي لا يكفّ عن الإشارة إلى دلالات تتحرك، وتطلّ جلية أثناء القراءة.
يجد القارئ نفسه أثناء قراءة الديوان مأخوذا بثقافات عديدة، وأساطير يخلخلها من دلالاتها المعهودة، لكي يعيد توطينها وتفعليها وفق سياق جديد، فكأن النص الشعري وفق هذا التوجه يعطي للواقع وجزئياته قيمة موازية للأسطورة من جانب، ومن جانب آخر يجعلها تغادر ثباتها البنائي القديم، من خلال إجراء التعديلات والتحويرات تحت فاعلية سلطة الأنساق المعاصرة، واستنادها إلى متخيل جاهز للحركة يباين الدلالات المؤسسة.
الشاعر وعلاقات التشابه والتناظر
ثمة قصائد في الديوان تحتفي بالحديث عن الشعر والشاعر والأنماط الكتابية بشكل مباشر أو بشكل عرضي، فهناك قصائد تؤسس لمنهجية المغايرة والاختلاف عن القديم، وحتمية الانتقاء من هذا التراث، والتخلص من الأشياء البالية التي لا تحمل قدرة على الاستمرار وإعادة الاندماج وفق واقع آني معاصر، لأن الإبقاء عليها يصبح عاملا من عوامل الثبات، ويشكل إعاقة للحركة. وفي هذا الديوان هناك نصّ بالغ الدلالة على هذا المنحى الإبداعي في النظر إلى الشعر خاصة، وإلى التراث بشكل عام.
فحين يقرأ المتلقي قصيدة (حذاء أبي) يجد نفسه أمام تداعيات دلالية عديدة، وربما يكون في مقدمة هذه التداعيات سرديات حذاء (الطنبوري)، ونتيجة الاحتفاظ به وما حل بصاحبه من كوارث وعثرات عديدة وخسارات. القصيدة بالرغم من هذا الإلماح نتيجة للسرديات المصاحبة للكلمات ووعينا بها، لا تنحو هذا المنحى، ولكنها تتخذ منه ذريعة في التخلص من الشوائب والكراكيب التي تلازم الإنسان دائما، وتكون عائقا، دون حاجة ملحة أو فائدة آنية، فالنص يشير إلى آلية البناء والهدم في آن، لكي يكون هناك مجال أو قدرة على الحركة بعيدا عن كراكيب الماضي.
والنص وإن تعلّق بحدود الحياة لارتباطه في صورته النمطية بحذاء الأب، ولكنه يحيلنا أيضا إلى طبيعة الفن، التي يجب أن تنحرف عن توجهات الأب أو الجد، خاصة حين نستحضر نص أحمد عبدالمعطي حجازي (الأمير المتسوّل)، وحديثه عن الأب والابن واختلاف صورتيهما ارتباطا أو انطلاقا من سياق حضاري والتوجهات الإبداعية المغايرة، فنص حذاء أبي نص ضد الثبات، ومديح للحركة الدائمة، لهذا يختم الشاعر نصه بهذه الدعوة للتحرر (حذاء أبي – كان مثقوبا حدّ الغرق والتعثر- ومعه رسالة كانت تقول:- أمامك مستنقع- وخلفك مفازة- ورأسك محشو بالرصاص- أطلق رصاصك -على الريح والغربان- واتخذ منها حاجتك- واعبر).
في إطار هذا المنحى يمكن للقارئ أن يراقب توجهات عديدة لإسدال المغايرة الكتابية من جانب أول، ومن جانب ثان يمكن أن نلمح نمطا أو أنماطا من الصراع بين الفن الفاني والمتفسخ والمتلاشي وبين الفن الباقي ضد الزمن. ففي نص (الحشاشون) هناك تأسيس للمغايرة والاختلاف، وفي نص (يكرهني) يأتي الصراع واضحا بين البشري والجسدي (الإنسان) والعلوي (الشاعر) للسيطرة على الحركة والتوجه، فالأول مشدود لأنساق قامعة في السلوك، والآخر لا يقيم وزنا أو يعطي قيمة لهذه الأنساق.
يتمثل التوجه الأول فيما يمكن أن يعدّ هجوما مبطّنا ضد تقليدية الكتابة والمقاربة الشعرية، ففي قصيدة (لا تبالغ) هناك إشارات لسمات الشعرية الخاصة بالشاعر، واختلافها عن الشعرية المنضدة المملوءة بالطنين الإيقاعي، من خلال رؤية مقابلة للتقليدية من خلال صفات محددة، يسدلها النص الشعري على الحداثية الخائبة غير القادرة على النفاذ إلى المتن، وابتعادها عن (عروض الطنين)، وفي نص (فراغات كثيرة) يتوجه النص الشعري نحو تعرية المؤسس في مفهوم الشعر وماهيته، ليحيلنا إلى جزئية مهمة ترتبط بصعوبة تفسيره أو الوصول إلى كنهه، ولكن يمكن الشعور بدبيبه أو الإحساس به، لأنه ليس ثابتا، وإنما متحرك، فالشعر يتعاظم على التنميط والثبات في مكان، يقول الشاعر( كل ما أعرف عن الشعر- عندما يعود أبي من العمل-يربت على كتف أمي- تظل تتمتم بحروف مبهمة- وتبتسم).
في مثل هذه القصائد تتولّد محاولة لاصطياد الشعر، محاولة نابعة من الانتساب إلى الهامش، أو إلى الخافت الذي يشعرك بالمغايرة، فالشعر هنا رهين الجزئيات البسيطة التي يحسّ بها بمفرده، وبتكونها الداخلي دون جلبة زاعقة. وفي ظل هذه البساطة يمكن تفسير عناوين قصائده التي تعطي مدلولا للوهلة الأولى لا يقرّبها من مناحيها الفكرية التي يمكن أن تتولّد بعد عملية قراءة النص كاملا، وهي عناوين لا تعبر عن الاحتشاد، وتكتفي أن تقف عند إشارة بسيطة تحيلك إلى دلالة ما بعد تفكير طويل.
يأتي التوجه الثاني في مقاربته للشعر والشاعر متمثلا في وقوفه من خلال بعض النصوص الشعرية عند تصوير الشاعر، ذلك الكائن الذي لا يمكن تجسيده في إطار محسوس، ففي نصه (لا ظل له)، سوف يقف المتلقي طويلا أمام التحديدات التي تغيّب بدلا من أن تكشف وتحدد كيانا جسديا كاملا، وسوف يتساءل القارئ عن الصديق الذي لا يموت، ولا ينتبه الموت له، ولا تلتقط المرآة صورته أو حدود جسده، وليس له ظل يرافقه. من خلال معاينة هذه الصفات يدرك القارئ أنه أمام كيان ليس من لحم ودم، وإنما أمام كيان متخيل، نعرفه لكننا لا نلمسه، نحس بدبيب حضوره وأفعاله المخالفة والمغايرة لنسق التواصل المؤسس والمعروف.
تتأسس مشروعية لهذا الفهم من خلال بعض الصور البسيطة التي تتوالى خارقة للنسق، مثل صورة (يحدّث الله خفية)، فيتكون له – نتيجة لذلك – إطار أقرب إلى القداسة، وهنا تلحّ فكرة الشاعر واختلافه عن البشر الذين يرفلون تحت قانون الموت والدفن. ويمكن أن نجد شبها بهذا المنحى في نصوص أخرى، منها نص (يشبه الإشارة)، وفيه تتأسس حدود المقارنة بين الإنسان المحدود بتواصل خاص مقموع، وذلك الكائن/ الشاعر، في خروجه عن النمطي من خلال تواصله مع الملائكة، يقول الشاعر (أشكّ كثيرا في ظلي/ كاد أن يوقع بيني/ وبين/ رجل طيب/ أعرف أنه يراسل الملائكة).
ولكن الشاعر في ديوانه من خلال نظرة متأنية لمجمل النصوص التي تؤسس لهذا المنحى بشكل مباشر أو غير مباشر، لا يقدم لنا الشاعر محاطا بهذه الصورة المقدسة وكأنه منفصل عن الحياة، لكنه يلحّ في إطار هذه القداسة مشدودا إلى سياقه، ومتورطا بمجمل القضايا الجمعية والذاتية، فنراه يقول في نصه (تصلي الأرض من أجله) (يبتهجون عندما يرقد الجسد المطعون/ على مذبح الكنيسة/ يتنازعه شيخ المسجد/ والقس/ وشيطان الشعر/ بينما يبكي بيت قديم رائحة عرقه/ وأغنياته عن رام الله/ التي تركض إليه من مائة عام).
فالقارئ يعاين كيانا خاصا ذا قداسة، لكنه موجّه الخطوات نحو سياقه ومنطلق منه، فليس هناك غناء للغناء، وإنما غناء متجذّر في تراث جماجم التتار، وفي مجمل الأحداث التاريخية التي شكلّت سياقا مرّ بها المنتمون إليه عبر التاريخ. ويتجاوب مع النص السابق نص (خواطر ليست بريئة)، حيث يولّد التلقي حركة نحو الشاعرية أو الشاعر المملوء بالوهج الملائكي، ولكنه وهج الاختلاف الذي ليس لديه ترف التخلص من السياق الحضاري الممتد عبر الأزمنة، بداية من المحن الخاصة بالموريسكيين واليهود، من خلال انشغاله بقراءة كف أميرة أندلسية، عندما يشير إلى المنحى الملائكي الذي يحمل بشارة الاختيار والاختلاف من خلال البجعة التي تطير فوق رأسه (لتسترد فرخيها/ بينما أنت مشغول بقراءة كف أميرة أندلسية/ تجلس على طرف مضيق جبل طارق/ تنتظر بحّارا/ كانت ترسمه على رمل الشاطئ/ وتتركه للمدّ/ وفي النهاية سوف تسمّيك/ باسمه الذي لن يعود/ وتعرف يهوديات أسبانيا الجميلات/ أن الشاعر يطير فوق الماء/ هكذا…)
فصورة الشاعر في هذا الديوان وإن جاءت مملوءة بإطار ملائكي مقدس، لا تتحرر من سياقه الآني، فهو في هذا النص ذاته موزّع بين كيانين في احتفائه وارتباطه بالمرأة، فهناك إشارة إلى (عرائس الماء)، وسحر الجنيات في سردية أوديسوس، وهناك إشارة- أيضا- في المقابل إلى المرأة التي تظل بعيدة مثل إله، وتسكنه بشكل خاص لا يبارحه، فهي تتشكل في حدود حنجرة يتوجه بها نحو آلهة لتشكيل ملامح امرأة تسبح في مجرى شريانه ودمه.
إن وجود الصراع بين الشاعر والإنسان من خلال الفاعلية لرصد العالم والسيطرة عليه يؤدي دورا مهما في محاولات التحوير والتعديل التي يمارسها الشاعر حتى يستجيب الواقع لنمطه المثالي الذي لا يتنازل عنه، حتى لو وقف الأمر عند حدود الخيال. ففي نصه (تأبط مغارة)، هناك بساطة شعرية، لكنها بساطة لا تعطي دلالتها التي تتكشّف عن مشروعية، إلا من خلال قدرة سحرية فاعلة تتمثل في المغارة بوصفها أداة يستند إليها السارد في عمليات القدرة على التحويل والتغيير، في إحلال أنثى مكان أخرى. فالنص لا يحتوي على امرأة واحدة، وإنما يحتوي على امرأتين، إحداهما حاضرة واقعا، ولكنه يغيبها بإحلال أخرى، فمن خلال السطر الأول (تفقد عطرها)، بالإضافة إلى (الفوز في الرهان)، و(رمي النافذة خلفه) تبدأ المرأة الأخرى المصنوعة من التخيل وسحر المغارة في التشكل (كانت تحبو وحيدة نحوها)، بحيث يُفقد النص الشعري المرأة/ الواقع وجودها بالتدريج، وتزداد مكتسبات السارد من خلال الوردة بدلالتها المعهودة، والوِرد بوصفه لهاثا وغناء واستعطافا وصلاة نحو المرأة/ المثال التي تتحرك نحو الغياب التدريجي بعد إتمام الفعل أو التداخل الذي ما كان له أن يتمّ في حضوره الغني دون عملية الإحلال أو التحوير التي تمت.
يؤسس النص الشعري في هذا الديوان فرادته من خلال القدرة على إدراك علاقات التناظر أو التشابه بين أشياء، لا يتمّ الجمع بينها إلا في إطار شعري بعيدا عن المستوى الظاهري النمطي. ففي نص (عناوينهم السرية) يقيم الشاعر تناظرات وعلاقات بين مرتكزات ومنطلقات منفصلة على المستوى الظاهري، ولكن الشاعر وحده يستطيع أن ينفذ إلى هذا التشابه، ويخلقه دلاليا، ويتولّد نتيجة لذلك إطار للمشابهة والجمع بينها بحيث يضعها في نسق واحد. فعلى المستوى الظاهري ليس هناك تشابه بين رئيس التحرير العجوز/ ورقيع القرية/ والناسك، ولكن بناء النص يؤسس لذلك التشابه من خلال الصفات المسدلة على الأول (رئيس التحرير العجوز)، وعلى الأخير( الناسك)، ويبقى الثاني (رقيع القرية) خاليا من الصفات المسدلة.
يأتي هذا التحديد والوضوح في القسيم الثاني، وكأنه المحور الأساس في تشكيل شبكة علاقات جامعة بينه وبين الأول والأخير، وفي تفجير وتشكيل بنية التشابه، فالصفات المسدلة إلى الأول والأخير تشدهما إلى الرقيع في وضوحه وظهوره، فكلاهما يبتعدان عنه من خلال ألاعيب الفارق بين الظاهر والباطن، أو المعلن والمتواري، والنص الشعري من خلال الترابط المقترح المشدود إلى مركز كاشف وجامع المتمثل في رقيع القرية، يعرّي ويزيل المساحيق، ويضعنا وجها لوجه أمام بنية تخيليية تهشّم المثالية الزائفة، وتفقد فاعلية الرقص على الحبال قيمتها وجدواها.
تذويب الأسطوري بالواقعي
يؤسس النص الشعري في هذا الديوان تفرده من خلال آليات عديدة، منها ارتباطه بالخافت المهمش، ووضعه في الصدارة وفقا لزاوية الرصد التي تبتعد عن الواضح الظاهر للآخرين، ومنها أيضا ما يمكن أن نطلق عليه تذويب المؤسس الأسطوري، وخلخلة دلالته المستمرة من خلال التحوير، وإدخالها في شبكة علاقات وبناءات جديدة، وهذا يشير إلى أن الأساطير في الأساس أحداث عادية تمت أسطرتها، لكنها منطلقة من الواقعي، وتمثل رصدا لقوى موجودة داخلنا، ويكشف الواقع عن ديمومة وجودها وخلقها، من خلال تتمددها مع الإنسان في تشكلات جديدة، ولكنها تظل مشيرة إلى جذورها وانبثاقاتها الأولى.
ففي بعض الأحيان يأتي تذويب الأسطوري وخلخلة دلالته مرتبطا بشيء آني يقوم على رصد تحولات الوعي، من مرحلة إلى مرحلة، ومن وعي فطري إلى وعي تجريبي، فأسطورة الشجرة التي تتحول إلى حية، أو الحية التي تتحول إلى شجرة، يتمّ الاستناد إليها وتذويبها لصالح معطى حداثي يرتبط بالإنسان وقدراته المعرفية المرتبطة بعمره الزمني وبوعيه. ففي نص من نصوص الديوان (جسد متعب) يأتي العصفور الأخضر – بما يشير إليه لونه وديمومة وحتمية الغناء- في حلم الأم مرتبطا بالوعي الفطري، ومدارات الإدراك الأولى، ويأتي حلمها في القيلولة- معادل النمو والإدراك النامي- كاشفا نتيجة للنزال مع الواقع عن حيّات كثيرة، فوجود الحيّات في مقاربة الواقع وجود لوعي تجريبي مغاير يظل مستمرا، ولكنه يظل بالرغم من ذلك مشدودا لحالة البراح الأولى المرتبطة بالخضرة، وعدم المعرفة، حيث يعاينها خيالا ماضيا، يقول الشاعر في نهاية نصه مشيرا إلى عذابات النزال والمعرفة (وما زالت الحيات/ تطارد ظلّ العصفور/ وهو ما زال/ يبحث في الغابة عن شجرة يلقي عليها/ جسده المتعب/ كل الأشجار/ أفعى واحدة/ ورؤوس كثيرة).
في الديوان أيضا هناك مساحة من الاشتغال على الأساطير اليونانية القديمة، فالقارئ لن يستطيع الوصول إلى قيمة التشكيل الشعري في نص (منازل أخرى للدهشة) إلا من خلال استحضار أسطورة ليدا والبجعة، حيث تشكّل( زيوس) كبير الألهة في شكل بجعة ليضاجع (ليدا) التي تنجب من جماعه توأما إلهيا (بولوكس) والجميلة (هيلين)، وتنجب في الوقت ذاته توأما بشريا (كاستور) و(كلايتيمنيسترا) من زوجها (تنديروس) في اتصال بشري، ولهذا يعدّ بولوكس وفقا للإله زيوس خالدا مثله، وقد اشترط بولوكس على أبيه زيوس تقاسم الخلود مع أخيه كاستور (ابن تنديروس البشري)، وقد لبى زيوس طلبه، فتقاسم الأخوان عالمي الحياة والموت.
وليست القيمة هنا في استدعاء الأسطورة اليونانية، ولكن القيمة تتمثل في تذويب الأسطورة، وإعادة تفعيلها وتخصيبها داخل أفق معاصر، يستند إلى واقع حياتي معيش في توليد مسوح متعالية متأبية عن التحقق للفاني البسيط والمتحلل. يتجلى ذلك في معاينة الصور البسيطة التي تؤكد حضور النسق الأسطوري، بداية من قوله ( في البدء كان باب السماء/ بين نهدي امرأة/ كان العارف بالمعراج/ يمرّ بين قوسين/ ويهمس كمجذوب)، ومرورا بقوله (بينما البجعات تحدف بياضها/ لمن يوقظ الرعشة/ في عصب الغياب)، وانتهاء بالصور والجزئيات التي تحرّف وتحوّر في الأسطورة، وتصبح مشدودة إلى واقع معيش.
يتأسس للمرأة الفانية في المستوى العادي والنمطي، وجود جديد في ظلّ ذلك التحوير والتعديل، فتتحول إلى حلم (يلقي سنارته ربما يصطاد حلما)، وتتحول إلى سبب للتشظي والصراخ والمطاردة (أو يلتقط منه حنجرة/ يصرخ بها كي يستعيد/ امرأة هاربة/ تشبه بحرا). فالنص هنا استنادا في التحول من بشري فانٍ إلى إلهي له صفة الخلود، يلقي بهذه الصفات وذلك التأثير على المرأة حين تتعاظم عن التشكل واقعا، فتتحول إلى حلم، يحاول تجميعه وتثبيته وإلصاقه على كل وجه ( وتتسع امرأة للرعي/ امرأة خضراء/ تملك فتنة لا تموت),
في بعض القصائد لا يكون الاشتغال ماثلا في تذويب الأسطورة، وتحويرها من دلالتها إلى دلالة آنية معاصرة، بل يتحوّل الأمر إلى استدعاءات تراثية وأدبية لها دلالتها الراسخة في السياق الأدبي، من خلال الإشارة إلى مقابلها الآني التي تحاول تقليم نزوعاته نحو الزائف، عن طريق التباين أو المعارضة. ففي نص (لم تكن سيلفيا بلاث) نلمح أن الاستدعاءات التراثية بداية من سكون أهل الكهف، وتقلبّهم ذات اليمين وذات الشمال بشكل يكشف عن الراحة، لنجد في النقل المعاصر الحركة الدائمة المرتبطة بقلق الكوابيس، ومرورا بتفريغ الدلالة الكامنة بشخصية الشاعر (ديك الجن) والمرتبطة بقتله لجاريته (ورد) استنادا إلى طهارة شكلية، وانتهاء بسليفيا بلاث الشاعرة المنتحرة، بسبب- في منطق صورتها المرصودة في تاريخها الأدبي- سطوة الذكوري في مقابل النسوي.
فتعرية الذات هنا تبدأ بنفي التشابه مع النماذج التراثية والأدبية بدلالاتها المعهودة، يتجاوب في جزء منها تعرية تلك النماذج نفسها، فالإشارة إلى نموذج الطهارة من خلال لوحة العذراء كما قدمها سلفادور دالي لا ترتبط بالطهارة أو أبدية العذرية، فقد وضع في لوحته (جالا إيلرود) المعروفة والمشهورة بتعدد علاقاتها، أثناء زواجها من زوجها الأول، قبل أن تتزوّج سلفادور دالي نفسه، وتتحوّل إلى ملهمة له تحمل سمات القداسة.
تعرية النماذج بشكل متعمد من خلال عرض المقابل الآني تعرية للذات الساردة، فسليفيا بلاث نفسها التي يأتي ذكرها في العنوان، لا تتكوّن لها دلالة في النص الشعري، يمكن تفريغها من مضمونها الأساسي على الجانب المقابل، ولن يتشكل لها دلالة قارة وفق البناء- بعيدا عن السائد والمقرّر عنها- إلا من خلال وصية الحطيئة التي كتبها في مرض موته، فقد أوصى أن توزع ثروته بين أولاده البنين والبنات بالتساوي.
ومع ذكر الحطيئة في النص الشعري سوف يتولّد لحركة المعنى في تلقي النص توجه جديد، يرتبط بالشاعر وقيمته وقيمة شعره بعيدا عن النسب، وعن مجمل الأشياء المصاحبة الأخرى. فإذا كانت والدة السارد في النص الشعري ليست سيلفيا بلاث، وهو ابن الحطيئة، ووالدة الحطيئة كانت جارية فسوف تتأكد لنا مشروعية التلقي، وأن هذه التعرية للذات وللآخرين الذين تمّ ذكرهم في السطور الشعرية تعرية لكل السياقات التي ترفع شعراء لا يرفعهم شعرهم، فكأن النفي أو الإثبات للإبداع من خلال أسس غير فنية خال من القيمة، ما لم يكن هناك صوت شعري متميز من الناحية الفنية.
فالشعر- في منطق النص الشعري- له خصوصية الانتماء إلى الآخرين من المهمشين والبسطاء، والعناية بهم والتعبير عنهم، والإشارة إلى الأنماط الجائرة التي تحكم سيرهم، ومن هنا تلحّ القيمة الأساسية ف?