أصبح من المسلم به اليوم أن عالم ما بعد الكورونا هو ليس نفسه عالمنا الذي نعرفه. ولكن المهم اليوم هي التوقعات المحتملة لمعالم هذا العالم. وبغض النظر عن ما إذا كانت الكورونا صناعة بشرية خرجت عن الإطار الذي صممت له أو أنها مظهر طبيعي للممارسة الإنسانية في علاقتها مع الطبيعة فذلك نقاش نظري يخرج عن إطار هذه المداخلة السريعة. فمن المحتمل وكما يقول الكثير من العلماء أن الكورونا لن تكون إلا بداية لسلسلة من الأوبئة المرتبطة بحقيقة أن المساحة المحتلة من الانتشار المعماري والسكاني تزحف بشكل كثيف على المساحات الخضراء والبيئات الطبيعية للكائنات الأخرى، مما يؤدي إلى فرص أكبر لأنتقال أوبئة لم يعتد البشر عليها من هذه البيئات إلى المحيط البشري. المهم وما هو واضح أنها أعطت الفرصة للكثيرين للتعامل معها بطرق مختلفة في إطار ما يمكن أن يساهم في إعادة ترتيب أوضاعهم. بالتأكيد لا يمكن التكهن بالضبط ما إذا كانت هذه المحاولات ستتمكن من الوصول إلى مبتغاها.
لقد عانت الدول المتقدمة مجموعة من الأزمات المهددة لوجودها منذ مطلع الألفية الثالثة ليس أقلها الأزمة المالية الكبيرة عام 2008 وما نتج عنها من تضعضع في العلاقات البينية بين هذه الدول. ورأينا ذلك جلياً من خلال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والثقة المتضعضعة بين الولايات المتحدة وأوروبا خلال السنوات الثلاث الماضية. ولكن مع كورونا رأينا أن معظم الدول عادت لتنفذ نظام حمائي في حدود الدول القومية، عاكسة بهذا الدور أن بريطانيا لم تكن وحيدة في تفكيرها الإنعزالي عن أوروبا.
البارز إلى الآن احتمالات للسيناريوهات التالية: السيناريو الأول وهو سيناريو “نظرية المؤامرة” والذي يقول أن الحكومة الرأسمالية الخفية للعالم تحاول أن تستغل الحدث لصالح دفع أكبر عدد من سكان المعمورة للإرتباط مع شبكة المعلومات بشكل مباشر (يمكن تتبع نشاط هذه المجموعة من خلال تصريحات بيل جيتس وهنري كيسنجر). لكن هذا السيناريو يحمل في طياته مجموعة من المتناقضات وأهمها أن ريادة الجيل القادم من تكنولوجيا المعلومات متمثلة بالجيل الخامس من ثورة الاتصال هو في يد الشركات الصينية والتي تتفوق، وبأعتراف اعداءها، بما لا يقل عن خمسة سنوات من البحث العلمي عن أقرب منافسيها.
السيناريو الثاني يتمثل في أن الرأسمالية ستحاول من خلال أزمة الكورونا أن تنظف مجموعة الأخطاء التي عانت منها منذ إنهيار المنظومة الاشتراكية وأن تعيد ترتيب علاقاتها الاقتصادية على أسس جديدة وذلك من خلال نظرية تصفير الديون وتصفير الصراعات والبداية من جديد. المعضلة مع هذا السيناريو أن الصين وروسيا لن تسمحا بمرور مثل هذا الحل لأنهما لا يعتبران جزءاً من هذه الأزمة، وبالتالي فمن صالحهم أن تتقلقل الأنظمة الأخرى بينما تستقر أمورهما.
السيناريو الثالث يرتبط بشكل الدولة فمن الواضح أن الدول التي تمكنت من السيطرة على الوباء هي تلك الدول التي تتمتع بمركزية عالية وبإستجابة كبيرة من قبل مواطنيها لتقبل الأوامر والأخبار التي تزودهم بها هذه الدول. وبالتالي أصبحت الدول “الديمقراطية” العريقة أكثر عرضة لأنتشار الوباء من الدول المركزية (بغض النظر عن طبيعة النظام بها أشتراكية أم غير ذلك). وبالتالي فأن مواطني الدول “الديمقراطية” سيكون لديهم مجموعة من التساؤلات الخطيرة والمؤثرة عن أداء دولهم خلال الأزمة. فهل سينتج عن ذلك مفهوم جديد للدولة؟ أم أن هذه الدول ستعود وتنكفء في إطار دولها “القومية” كأسلوب حمائي، وبالتالي فأن نظرية التكتلات الكبرى التي كانت سمة أساسية للعالم منذ ثمانينيات القرن الماضي أصبحت اليوم في مهب الريح.
السيناريو الأخير، وهو الأكثر واقعية، يقول بأن العالم سيدخل في حالة من الفوضى الإدارية والنقدية قد تطول إلى أكثر من عقدين من الزمن. يقول بعض مؤيدي هذا السيناريو أن العالم بعد كورونا سيتحول إلى الحرب المباشرة بين القوى الكبرى بعد أن أمضى العقد الأخير في مجموعة من الحروب بالوكالة وحروب الجيل الرابع والخامس. ولكني لا أعتقد أن أي من القوى الكبرى يحتمل مثل هذه الحرب وخاصة أن العوامل الداخلية والعوامل الخارجية لا تسمح لهم بمثل هذه الحرب. ولكن هذا سيترك المجال لحالة من الفوضى ناتجة عن إنهيار المنظومات التي سادت خلال العقود الماضية. فقد تفاقم اليوم النقاش الذي بدأ منذ 2015 حول النظام المالي العالي وسيطرة الدولار على المنظومة النقدية العالمية مع إدراك الجميع أن الدولار يدعم فقط بأرتباطه بالبترودولار وبالقوة العسكرية للهيمنة الأمريكية عالمياً، وكلا هذين العاملين بدأا بالتقهقر منذ سنوات، ومع أزمة الكورونا وصل سعر النفط إلى أدنى مستوياته بينما تحولت أمريكا إلى دولة عالم ثالثية في تعاملها مع الأزمة. لكن البديل للمنظومة المالية البديلة غير جاهز اليوم. فعلى الرغم من أن الصين بدأت محاولاتها لأنشاء منظومة بديل منذ 2015 مع منظومة دول بريكس، لكنها اليوم ليست جاهزة لملئ الفراغ، وأقله أنها ما زالت تملك 8 ترليون دولار في احتياطياتها، وما زالت مساهم بأكثر من 25% من سندات الخزينة الأمريكية. النتيجة ستكون بالتالي حالة من الفوضى العالمية إلى أن تتمكن الدول مرة أخرى من الوصول إلى استقرار يمكن أن تتفق عليه.