((إنه طريقنا.. طريق الحياة. إن دماءنا لن تجف يوماً، وسيبقى الشهداء أحياء في ضمير أحفادهم الذين سيحملون راية الرسالة ومجدها)). بهذه العبارات اختتم الكاتب والمفكر العراقي الدكتور علي المؤمن روايته “عروس الفرات”، التي كتبها من أعماق قلبه وحياته؛ لذلك وصلت إلينا جميعاً، لأن الذين يكتبون من اعماقهم؛ يكتبون إلينا حيث القيعان النفسية متساوية، وبالتالي؛ يستطيع القارىء اللبيب التمييز بين من يكتب تجربة حياة وجرأة وفراده ونزف، وبين من يكتب مستنسِخاً تجارب الآخرين ومستعيراً لغتهم.
قراءة الرواية من الداخل والخارج:
سألوا الكاتب الروائي “مكسيم غوركي” كيف تعلّمت الكتابة؛ فما كان منه إلّا أن كشف ظهره وعليه آثار الأثقال، حيث كان يعمل حمّالا أو عتّالاً. وهكذا عندما كتب روايته “الام” لا تلاحظ فارقاً بين كاتب النص والنص نفسه. وكذا الدكتور علي المؤمن؛ كتب “عروس الفرات” بروحه ودمه وغربته ووجعه وانتظاره وتجاربه وقلبه وحزنه وفرحه، في حين هناك من كتب من خلال قراءاته، والفارق كبير بين الابداع وبين الاستنساخ. فرواية “عروس الفرات” مستشفّة من “سنوات الجمر” والجحيم والتضحية والموت والحب والمغامرة .خط سير هذه الرواية وسردها هو نوع من كشف الواقع المخفي لما كان يقوم به النظام البعثي القمعي في العراق، وهذا هو جوهر ومرتكز العمل الروائي حينما يقوم على البحث والكشف عن الحقيقة؛ إتسترسل الرواية، من خلال صورها الصريحة والواضحة، في قراءة لنهج الحاكم والسلطة، وهو نوع من استعراض مساوىء النظام وتعريته من الخارج، وأفعاله من الداخل.
في عالم الرواية زال استعمال البطل، ليحل محله مفهوم الشخصية، وهذا ما قام به “اندريه مالر” في روايته “الأمل”، حيث لم يتحدث عن المواقف البطولية، بل عن مصير الإنسان في الصراع والموت والحرب، وهو ما اشتغل عليه الدكتور علي المؤمن في سرده الأنيق وكتابته الرشيقة وحلاوة عباراته؛ فقد حاول الدكتور المؤمن نقد عقلية النظام بطريقة تفكيكية وبنيوية وفكرية، وطرح وقائع تسند سرده الروائي، مقابل كل الحقائق المزيفة التي طرحها النظام وحاول من خلالها تجميل صورته أمام العالم. ومن هنا تأتي مهمة الأدب في كشف الوقائع المزيفة وفضحها.
الفكرة:
يفتح لنا الدكتور المؤمن الباب من خلال شخصيات معينة، كما في التخطيط الذهني للرواية؛ ليسافر بنا مع الأحداث والحياة من زوايا مختلفة، ويترك المواقف تتحدث عن نفسها، وهو ما يطلق عليه العفوية أو بهجة التخيل والكتابة، بمعنى أن النص يروي نفسه. وقد احتفظت “عروس الفرات” بأمانة نقل الأحداث والدلالة والواقع، وبذلك؛ استطاعت أن تكون امتيازاً تقنياً من خلال أُسس بناء الشخصيات والأحداث والمحاور والحوارات. ويقدم الكاتب هذا النص ليدخل الى التفاصيل الصغيرة وما رافقها من تقلبات، ولن يبدو السرد غريباً لمن عاش تفاصيل تلك المحنة، حيث الأمل والقلق والتوجس والانتظار.
اللغة السردية :
تعد رواية “عروس الفرات” من سرديات الأدب الوثائقي التي تسجل حقبة دموية مريرة، كما لو أنها كابوساً طويلاً. وفي العادة عندما نقرأ بعض الروايات نرى أن ثمة لعب وفوضى وبعثرة، إلّا في رواية “عروس الفرات”، إذ تماسك النص ووحدته وتسلسل أحداثه، وهذا التسلسل مهماً، ليبقي القارىء يقظاً. فيما اتسمت لغة النص بالأناقة والسرد المتأني، من دون تضخيم مفتعل، حين يغوص الكاتب عميقاً في الحدث. ولم تتحدث الرواية عن بشاعات الطاغية، بل عن نظام المؤسسة الدكتاتورية، ولم تركز الرواية على وحشية النظام وجنونه فحسب، وإنما ذهبت الى تفاصيل دقيقة وبعيدة، من أجل تفكيك خصائص الذات الوحشية، بمعنى أن النص كشف المستور والمخفي من مواقف وأحداث عبثت في العراق الجريح. وهو ما جعل “عروس الفرات” عملاً مؤثراً ونصاً أدبياً مميزاً، يحتل مكانة فذة في الأدب المعاصر، سواء أكان محلياً أو عربياً أو حتى عالمي، فيما لو تمت ترجمته. ولا غرابة في ذلك البتة، خاصة عندما نعرف أن الدكتور علي المؤمن نذر نفسه منذ شبابه للثقافة والأدب والمعرفة والبحث، وهذا ما حاول أن يؤرخ جزءا منه في هذه التجربة السردية، والسرد ليست مهمة سهلة، لأنها تحتاج الى لغة مسبوكة، لتجعل الحكاية فناً روائياً مميزاً.
لقد باحت رواية “عروس الفرات” عن زمانها ومكانها بطريقة مباشرة؛ حين كشفت التفاصيل الدقيقة للأحداث عن فضاءاتها المكانية والزمانية. وكان يمكن أن تُكتب باللهجة المحكية العراقية، لكنها احتفظت بلغتها العربية الفصحى، بصوت الراوي، لتجعل لها هوية واسعة وكبيرة. كما وضّفت الرواية الأحداث السياسية التي مرت بها الحركة الإسلامية العراقية أو واجهتها أو صنعتها، حيث تعثر على الوجه الآخر لهذا التاريخ المنسي والمخفي أو الذي يُراد طمسه عن طريق تشويه الحقائق؛ فتدخل المخيلة السردية لتوسيع نطاق الرؤية والخيال على مستوى تحليل المواقف بشكل خدم السرد الروائي.ولم ينزلق كاتبها، كما يحصل عادة للكثير من الكتّاب، نحو الشعارات والخطابات أو المبالغة والتصنّع والافتعال، بل اعتمد علي المؤمن لغة جميلة في بناء الجمل المستخدمة، مما يجعل القارىء في لحظة تركيز لمجارات الحدث، وهو ما أضاف على الرواية جمالاً آخر.
قضية عادلة:
تاريخ التمرد الشيعي على الطغاة وعلى الظلم، تاريخ طويل. وهي نزعة وجودية من اجل قضية عادلة. وتحاول أحداث رواية “عروس الفرات” وصف تلك التحديات التي تواجه كل من حمل راية العقيدة والمبدأ، بل تذكِّرنا بعض أحداثها برواية للروائية “أجاثا كريستي”، حيث المداهمات والملاحقات وخطط طواريء، تحسباً لأي مداهمة غير متوقعة. ففي كل صفحة من صفحات الرواية حشدٌ من الأحداث والمواجهة، وصورٌ لمواقف الشهداء والأحياء، ولكل المضحين في طريق ذات الشوكة.
لقد جاءت الرواية لتنظيم تلك الجروح النازفة والمفتوحة في خاصرة الحركة الاسلامية، وهذه هي رسالة “عروس الفرات” لمن لم يعرف حقيقة النظام أو كانوا في قطيعة اعلامية كبيرة؛ حيث كانت شريحة من الاعلام العربي قد وقفت ضد إيصال مثل هذه الرسائل للعالم؛ في سلوك يتّسم بالانحياز والخبث لصالح النظام الدكتاتوري، لتمرير مشروع الخراب الأكبر؛ فجاءت رواية “عروس الفرات” كصورة حية للماضي القريب. والرواية رسالة تؤرخ أن تاريخ الخراب الذي عمّ في العراق قد بدأ منذ مجيء الطغمة البعثية على سدة السلطة والحكم.