إن النمط الشعبوي في التفكير والتعاطي مع القضايا العامة لاسيما السياسية منها ، من أهم عوائق الرقي المجتمعي على جميع الأصعدة ، فهذا النمط يفضي الى السطحية والفوضوية و مجانبة المنهجية العلمية في المعرفة ، و لذلك كله انعكاسات سلبية في الحياة العامة والخاصة .
إن المجتمع الرشيد ، هو ذلك المجتمع الذي يتسم بمستوى من الوعي والنضج و الثقافة ، تجعله يفكر وفق منهج علمي صحيح ، ويتعاطى مع القضايا لا سيما القضايا العامة بطريقة منطقية .
حين تترسخ في المجتمع ثقافة العقلانية و اعتماد المنهج العلمي ، فلا يمكن أن يهمل هذا المجتمع مباديء و أساسيات المنهجية العلمية في التعاطي مع الأحداث والأشخاص.إن إشكالية الشعبوية ، لا تقتصر على الجمهور العام في المجتمع ، و إنما تتورط فيها النخب التي ينبغي أن تكون بحكم ما حصلت عليه من تعليم و ثقافة ، أبعد عن هذا النمط السلبي المعيب . و من أسباب ذلك ، أن هذه النخب غالبا لا تعيش المعطيات التي اكتسبتها في سنواتها الدراسية ، لأنها غالبا تتعامل مع المعرفة المدرسية بمقدار ما تحصل به على معدلات النجاح و شهادات المدارس و الجامعات ، مضافا الى قصور في المناهج الدراسية التي لا تركز على صياغة و بناء العقلية المنطقية ، و ترسيخ المنهجية العلمية في التفكير ، الى جانب الكم الهائل من المعلومات التي تزقها للتلاميذ عبر المراحل الدراسية التي يتدرجون فيها .
هناك أمثلة كثيرة تؤشر على هذه الحالة ، حيث تجعل الراصد أمام مفارقات مضحكة مبكية في الوقت ذاته .
أليست مفارقة أن تجد نخبا في المجتمع حاصلة على تعليم عال و شهادات من أرقى الجامعات ، لكنها ما تزال تؤمن بالخرافة و تنقاد للكهنوت الديني انقيادا أعمى و تنجرف مع الخزعبلات ، و تعطل عقولها عن التحليل المنطقي و التفكير العلمي ؟
أ ليست مفارقة أن تنساق ( نخب مثقفة ) مع موجات التعصب الديني و الإثني و الطائفية المذهبية ، بل و تبرر لها ؟
أ ليست مفارقة أن تُخضِع النخبة عقولها لنصوص و مفاهيم أُلبِست ثوب القداسة ، فتتفاعل فكريا و سلوكيا مع هذه المقدسات على حساب المعطيات العلمية ؟ أليست مفارقة أن ينجرف الناس مع شائعات و أقاويل تتصل بأحداث سياسية تتطلب سعة في الإطلاع و وفرة في المعلومات و قوة في القدرة على الفهم و التحليل ، فإذا بالاستنتاجات السطحية و الأفكار الطوباوية تكون هي الرائجة و تتحول الى متبنيات على حساب المعلومات الدقيقة و التحليلات الصائبة المستندة الى المعطيات الحقيقية ؟ مما يؤسف له ، أن الشعبوية ما تزال سائدة بل طاغية في مجتمعاتنا ، تكبّل هذه المجتمعات عن القدرة على التقدم و الرقي و الوصول الى مستوى المجتمع الرشيد . أعتقد أن مجتمعنا العراقي ، ضحية هذه الشعبوية التي ساهمت في مأساته الكارثية لا سيما في العقدين الأخيرين . لذلك لا بد من خوض نضال مرير لبناء المجتمع الرشيد في العراق .إن هناك علاقة تفاعلية مترابطة بين الحكم الرشيد و المجتمع الرشيد ، فغالبا لا يحظى المجتمع بالحكم الرشيد ما لم يكن مجتمعا رشيدا ، و من جهة ثانية فإن وجود حكم رشيد في ظرف ما ، يعتبر من أهم أسباب تصعيد المجتمع الى مستوى المجتمع الرشيد و الحفاظ على استمرار واستقرار هذا المستوى في المجتمع .إن المجتمع العراقي مجتمع زاخر بالشباب ، و شبابنا على الرغم من الظروف التي أدت الى زيادة الفقر وارتفاع نسب البطالة و الأمية و ضياع فرص التعليم على أعداد لا يستهان بها من الناشئة و الشباب ، فإنهم و في ظل التطور التقني و رواج وسائل التواصل الاجتماعي و يسر الوصول للمعلومة في عالم أصبح كالقرية الواحدة ، يملكون من التطلع و الطموح و الانفتاح ، ما يؤهلهم للتفاعل مع كل جهد يرمي الى بناء المجتمع الرشيد في العراق . لذلك يجب على المتنورين أن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا المجال على المدى القريب والمتوسط و البعيد ، مهما كان الشوط طويلا و حافلا بالمصاعب .