١_
أعدتُ تشكيلَ القسوة من جدِيد،
لأستعيدَ قُدرتي على البُكاء والقهقهةِ معاً،
فتحتُ الجرحَ مرّات أخرى لأتفقدَ كثافة الملحِ بداخلهِ،
ولأُوحِدَ شكل كل الشّرفاتِ التي تطلُ على بساتينِ القيحِ،
شُرفةٌ واحِدة لا تكفِي لأشرعَ هذا المسَاء في سردِ تفاصيل الوجعِ،
استعرتُ من الليلِ جرسهُ النّحاسي
لأمددَ قامَات الجبل حتى تصبحَ أنهاراً
تقبلُ عن قصدٍ فكرة العواء إذا تربصَ بها الغمامُ،
رفضتُ أن أكبرَ
حتى يَلحقَ بي هؤلاء الحُفاة الذين تعرفتُ إليهم في معاركِ الوجعِ الطويلة،
كنتُ شاسِعاً بمقدارِ حقلَ شعيرٍ في ريفٍ قديم،
غير أني لا أعرفُ كيف أصبحُ ماءً عند اللحظةِ الحاسِمة،
أحاولُ أن أكررَ هفوتي تلو الأخرى
وأنا أتصفحُ حجر الجرانيت لعلني أعثرُ على معابرٕ إلى الغيمةِ،
لعلني أعثرُ على أصداءٍ تركتها عصا مُوسى،
لا شيء يُشبهني سوى هذه الرغْوة التي يلفظُها الموجُ داخلَ أحذيتِي القدِيمة،
يغسِلني الموجُ في رواحِه من الوشمِ الغائرِ في الذاكرة،
فكيف فقدتُ الرغبة في تتبعِ أثر العابرينَ في خيالاتي كقافلةٍ تخلُو من رنينِ الجُلجلِ،
من كل أشكالِ النباحِِ الذي تبيحُه المعسكراتُ
حينما يهطلُ الغسقُ كثيفاً ؟
٢_
لم تبقَ عِظام في استدارة هيكلي تليقُ بزخمِ الرعشَاتِ،
استويتُ على كل مَدارات طائر اللقلقِ
لأضبطَ تفاصيل الهِجرة،
كنتُ مُنشغلاً بنزواتي كصلصالٍ فقد فجأةً طراوتهُ،
حينما يدق ناقوسُ الشِتاء في معصمِي
أكونُ قد بلغتُ مدارجَ الخلْوة،
أُعَلقُ رزنامة لقاءاتِي الوهْمية على حافةِ النّسيان،
آخذُ قيلولةً تحت سقفِ الغيمِ الرّمادي،
أُرخِي استداراتَ الوجوهِ التي اعرفُها،
التي استنفذت مَواقيتها،
أصبهَا في فَناءاتِهَا الأخيرة نِطافاً
أمنعُها من أن تُولد من جدِيد،
وأرقبُ انسلاخَ العُمر من سُباتِهِ،
لأعيدَ ضَبط تجويفةَ الغليون بين الشّفة والشّفة،
لأضبطَ ربطة العُنقِ في عنقِ الفكْرة،
فكرةَ أن أصْحبَ طائرُ اللقلقِ إلى غاية نهاية تفاصيل النّزهة،
لنَعْلقَ مرة أخرى في كمائنِ الأصيافِ،
نعلقُ على هيئةِ سحاباتٍ بطيئة الحَركة،
ونتركُ خلفنا الميادينُ مَواطن جافةً كالقصبِ،
مواطنٌ تغيرُ أقفالهَا حينما يجيءُ الليلُ مُحاطاً باعذارِنا الصّغيرة،
ويجيءُ السّعالُ مَواويل مطولة
في حناجرِ كل أطفال المُخيمات.
٣_
لا شيء هنا وهناك سوى خرائطُ الملحِ على الأرضِ،
و طبول تَقرعُ صَلابتها للهزائمِ المتوارثة عن الشفقِ الأحمَر،
الشفقُ الذي أوهَمنا أننا سنتغيرُ يوماً مَا،
لنصبحَ عند اللحظةِ الحاسِمة قمحاً في ترابٍ،
فراشاتٌ في مُقتبلِ العمرِ،
ماءَ زهرٍ على رفوفِ الدكاكِين القدِيمة،
طيوراً محلقة دون أن تعكر صَفوها الفضاءات اللينة
إذا انحرفتِ الفصولُ عن مَداراتهَا،
فتبيضُ فوق الأرصفة مرتين في كل موسمٍ يعبُرها،
و يعبُرنا،
ما أطول رِقابُ السّرديات !
حينما يتعلقُ الأمرُ بالقِراءات المتَشابهة على كُفوفِ أيدينا،
حينما يتعلقُ الأمرُ بمواضعِ اللون الأزوردي
في الاسْتدارتينِ المألوفتينِ حتى النُّخاع،
اسْتدارة السّماء،
و اسْتدارة البحرِ معاً،
إنه الحظّ مرة أخرى،
راحَ يُعانِدنا،
يخاتِلنا،
ليرتقِى بداخِلنا إلى مراتبِ القَدرِ رغم أنُوفنا،
رغم هشاشَة سلالمَ العظامِ،
لنركضَ مرة أخرى في الممراتِ الضّيقة
غير آبهين لأثرِ الريحِ على جِباهنا،
نركضُ في الممراتِ التي لا عتباتَ لهَا،
لا أسماءَ لها،
لا قاماتَ لها،
والدتي أيضاً مرتْ من هنا،
ذات ريحٍ صريحةٍ
بكيسٍ من الخيشِ على كتفِها،
بخُلخالها،
بنبراتِها،
ثم قفلتْ عائدة إلى حقيقتهَا كالمسِيح،
فمن أخبرَ درجات المكَان
بأننا هاهنا عند تخُوم بحرٍ قدِيم ؟
نقتفِي آثارَ من مرٌوا بسلاسةٍ بين الماءِ و الماءَ،
نلاحقُ الشّهيقَ تلو الشّهيق،
نلاحقُ حضْرة الرّيح.
٤_
حين لم يعد هناكَ في الحضنِ مُتسعٌ للبهجةِ،
الصوتُ النشازُ يلاحِقنا :
_ لماذا تركتمُ الزوبعة فوق الهضبة وحِيدة ؟
أعيدُوا لنا إذاً شهَواتنا القديمة،
لنعرفَ أين كانت تمضي بنا أريَاقنا حينما تَفيضُ الأسِرةُ عن آخِرهَا،
أعيدُوا لنا السَماء الأولى
التي كنا نلمسُها بحياءٍ فوق كُراساتنَا المدرسية،
نحن بحاجةٍ ماسة لعُرينا الذي يفضحُنا،
لقبعاتِ القش نَتباهى بها
حينما تنكسِرُ الأضواء بخفةٍ على طَراوة المَرايا،
بحاجةٍ ماسة لهشاشَتنا
التي نستمدُ منها شكلَ عِراكاتِنا أسفل الغبار،
أسفل حدائقَ الصّبار المؤلمَة،
كنا صِغاراً لا نعرفُ عن تضاريس الشِعاب شيئاً،
كنا نتعمدُ ذلك لنضيعَ لفترةٍ أطول،
لتنزفَ خُدوشنا أكثر فأكثر،
كيف أمسَينا في لحظة تافِهة أكثر سَقماً،
أكثر حيْرةٍ من ذِي قبل ؟
ونَسينا فجأةً معنى أن نركض في الممراتِ الضّيقة،
نبحثُ عن صفصافاتٍ نهربُ عبرهَا لنلتقِي بوجُوهِ السّماء،
تعالُوا نفتحُ الجُرح معاً مرّات أخرى،
الملحُ في تكدساتهِ يسأل عنا
قبل أن يشْتعل المَدى جِراحاً،
وتفيضُ حقُول الرمايةِ بالبارودِ المُتأججِ كاللهفاتِ،
تعفنَ التوتُ في وريقاتهِ
قبل أن يسجِلَ على التلةِ نُضجهُ الأخِير،
احتقنتِ العرباتُ
وهي تحاولُ رسمَ معْبرهَا إلى مخيلة الحقلِ،
مازلنا عند المنعطفِ تماماً
نلاحقُ حوافر الخيلِ العائمة في الغبارِ،
نترجمُ بصماتَ شهودٍ عاينُوا عن كثب نفوقَ نصُوصِنا،
نتلُوا على مسامعِ الريح هفواتهُ،
ونحلمُ بطائرِ العنقاء يحُط على أكتافنَا،
لنلغِي الفزاعة الآيلةُ للسقوطِ من حقولنَا،
من جوفِنا.
٥_
يأتي المطرُ أسودٌ دون أن يعتذر من شقوقِ الأرض،
تَندلعُ الخيبةُ ماسِحةً وجه الصّباح بأكمامِها،
تأوي الحَصى إلى أحجامهَا باكراً،
يفقدُ النهرُ قدرتهُ على العواءِ،
تَستعيدُ شُجيرات الدفلى قدرتهَا على الاغواءِ،
عاد الزجاجُ إلى رملهِ مُنهكاً في قِواهُ،
ونحن نقرفصُ في متاحفِ الشمع عُراة كالأسماكِ،
نُؤسسُ لأفقٍ جدِيد،
لريحٍ تأتي من الجنوبِ على عجلةٍ من أمرهَا،
ونحلمُ بممراتٍ أكثر ضيقاً من استدارة السّررِ،
لتأخذَ شهواتنَا صوت الفحيحِ
إذا أقبل الليلُ يهتِفُ بأسمَائنا المُستعارة،
ونعبرُ الطوفانَ مثنى مثنى دون قواربٍ تُذكر،
دون صفصافةٍ تَعصمنا من الرملِ المتحركِ أسفلنا،
تَعصمنا من الهشيمِ،
تُقلنا إلى مقابرِ السّماء جثثاً بهية،
حيثُ نَتمددُ في السُكونِ
كدبابيسَ شالاتٍ سقطت سَهواً في كوماتِ التبنِ،
وضَاعت من صناديقِ الصّبايا إلى الأبدِ .