بعد نجاح حركة سنة 1958 بالاطاحة بالنظام الملكي وأركان حكمه ، سعى الزعيم عبد الكريم جاهداً لاستحصال مباركة المرجعية الدينية العليا التي تزعمها آنذاك الإمام آية الله العظمى السيد محسن الحكيم ” قدس سره ” ، لعلمه اليقيني أن حركته التغيرية تبقى عرجاء واركان حكمه لن تستتب دون تأييد الإمام ، ومن أجل ذلك أرسل الجاهات الشيعية والواجهات العشائرية والزعامات السياسية لاستجداء التأييد ، إلا أن المباركة لم تعلن إلا بعد عشرة أيام من الاطاحة بحكم السلف ، فتنفس الزعيم الصعداء ونام قرير العين أن حركته الى نجاح واركان حكمه في رسوخ وثبات .
وفي لقاء وجاهي هو الأول بين الإمام وكريم في المستشفى حيث يرقد الإمام ، همس الزعيم بأذن الإمام ” سيدنا أنا شيعي ، فرد الإمام بصوت خافت حيث أخذ المرض منه مأخذه وتطور لمراحل متقدمة ، لا تكن شيعياً بل كن وطنياً ، ارعى شعبك واحمي مصالح الوطن ، تخلص لك الرعية ويخلدك التاريخ ، ما احوجنا لزعيم وطني مخلص ، الوطن همه والشعب هدفه ، والفقير غايته ، واليتيم ولده ، والارملة بنته ، ومن تقطعت به السبل منتهاه ، وبالقطع أن مهمة أي متصدٍ في العراق لن تكون يسيره ، فطريقه وعر ومشواره شاق ومساراته محفوفة بالمخاطر ورئاسته ستكون على المحك وتاريخه في خطر ، بعد أن تمكن الفاسدين من مفاصل الدولة ، واستشرى الفساد واستحكم الخطأ ، وانتشر الباطل ، إذ أصبح المبدأي في وطني مغفل والشريف ضال والمصحح مدعي والناصح مغرد خارج السرب ، على المتصدي اليوم وكما دعت المرجعية الدينية العليا أن يكون أكثر جرأة وأشد بأس وأصعب قرارات ، فيستهدف الرؤوس قبل الذيول ، والمجاهرين قبل المختبئين والمتصدين قبل الاتباع ، وسيجد شعب ناصر وأنصار ذائدين ومخلصين داعمين ، فالله مع العبد ما دام العبد مع الوطن والشعب ، ودون شك أن التصحيح ولو كان جزئياً سيجد الصدى ، والتصويب سيلقى النصرة.
انتشار الفساد
فقد انتشر الفساد وسادت الظلامات وتمكن السراق وسُحق الأشراف ، وراح الخطأ مثلا ً والصواب إدعاءً والضلالة مبدأ ، ولم ينجو مفصل أو ميدان من التخريب ، فقد امتدت يد الخارج ونصرت يد الداخل وسوق الاعلام المأجور المستهدف الضلالات ومرر التخريب والتدمير والتآمر ، فراح العراق ساحة للفساد وغسيل الأموال وتجارة المخدرات ، وحاضنة للأفكار الضالة المخربة الوافدة ، فنال الاستهداف المؤسسة الدينية المصححة فراحت متهمة وهي المصوبة ، واصيب الإعلام الحر بمقتل حينما حل محله إعلام المجون والخرافات والترهات وما يشوه الذائقة الملتزمة ، وامتدت يد التخريب الى المدرسة والجامعة فراح الاستاذ أسير المستهتر من شذاذ الطلبة ، حتى ركن الى السكينة والهدوء والتزام الصمت حفظاً للكرامة وتجنباً للمساءلة ، إذ أضحى الحق يدور مع الطالب بعد أن أصبح يُنصّب ويقيل وينقل قيادات التعليم ومفاصلها ، وتحول المشفى الى مقتل بعد أن شح فيه الجهاز والدواء والحكيم المقتدر الحريص ، أما سوقه فقد تحول الى منفذ لنفايات المصانع وردياءات المناشئ ومكبات المخازن ، وآخر ما يجول في خاطر المُتاجر لا التاجر صحة البشر وحياة الانسان ، كيف لا وقد أصبح البشر أرخص ما في البلد وأبخس سعر من سلعة منتهية الصلاحية .
لقد عم الخراب واستحكم الفساد وتمكن الشذاذ من الوطن والشعب الذي شق على جبابرة العصر ، لكن هذه المكنة عابرة والاستحكام مؤقت والغث الى زوال ، فليس نكسة اليوم هي الاموال ، ولا استهداف الوطن الاخيرة ، فقد اغاض العراق وعلى مدى تاريخه من أفتقد للامتداد وشح عليه الخير وضاقت به المدنية والحاضرة بما رحبت ، فتاريخ العراق سلسلة من الاستهدافات وحلقات من الانتكاسات وتتويج بالانتصارات والتصديات ، ويقيناً أن اليسر بعد عسر، فقد ضاق الشعب ذرعاً بمن أفسد وخرّب وهرّب وغسل وهرب، وراحت سمعت الوطن والمواطن والمتصدي على المحك، ووطن مثل العراق وشعب بإباءه لا يمكن أن يجنح للسكون وإن هادن بانتظار تصحيح الذات قبل ثورة التصحيح، فعلى من أفسد وعبث وظلم استذكار مآل من سبق ممن عبث بمصير وطن وثروة شعب، فالحق قائم والظلم إلى زوال والعاقبة لمن تصد وحفظ وأتُمن وصان، ويبقى العراق حي ولو تآمر عليه العالم لا دول الإقليم أو بعض الجوار .