بقلم | الكاتب فخري محفوظ
ارسل لي صديق من اصدقاء صفحتي رسالة طويلة فيها إطراء ومحبة كثيرة وإعجاب بما نشرته في مقالي السابق الذي يحمل عنوان ( لا في عير النقد ولا في نفير القصيد) ، الذي تناولت فيه ما يسمى مجازا (قصيدة) الدكتور حسن مغازي المسماة ( كاسات الغرام ) ، وقد أرفق صديقي الكريم هذا مع رسالته ، قصيدة غزلية ، يقول ناظمها (صاحب الرسالة) ، أنه نظمها في سنة ١٩٨٠ ، أيام كان طالبا في جامعة بغداد وكان عمره آنذاك تسعة عشر ربيعا . وهو يرجو ان اطٓلع عليها وأقارن بينها وبين ما كتبه الدكتور مغازي الذي يبدو أنه سبب صدمة كبيرة (لصاحبنا) ، لأن قصيدة الدكتور مغازي كانت باردة ، ساذجة ،ركيكة ليس فيها بيت واحد يمكن أن يثير إعجاب القارئ ، ولا تدل ابدا على أن ناظمها يحمل درجة الدكتوراه في (علوم النحو والصرف والعروض ) ، وأنه مؤلف لستة وخمسين كتابا في مختلف علوم العربية . فضلا عن أنه أستاذ في الجامعة ، ولديه اربع مجموعات شعرية منشورة. ويبدو أن صديقي هذا قد وجد في نفسه الجرأة لكي ينشر قصيدته هذه مقارنا إياها بالنظم المتكلف والبارد للدكتور مغازي .ولكني ارى سببا آخر وراء إرساله هذه القصيدة ، وهو إحساس صديقي الشاعر بالتفوق على ( أستاذ النحو وموسيقار الشعر العربي )الذي لم يحسن أن يثير انتباه القارئ ولو بشطر بيت من نظمه ،ولم تشفع له شهادته العالية ولا كتبه (الستة والخمسون) كتابا ولا (آلاف الأبيات) التي يدعي مغازي حفظها ، بينما لم يكن صديقي الشاعر إلا طالبا في المرحلة الثانية في كلية علمية لا تمت إلى الشعر واللغة وفنونها بأية وشيجة ، وأنه إنما اعتمد أساسا على قراءته ومطالعته الخارجية غير المنتظمة ، مع بذور موهبة لو وجدت من يتعهدها بالرعاية لكان صاحبنا من شعراء العراق البارزين ، ولكن الأوضاع في العراق كانت بالضبط كما وصفها شاعر العرب الأكبر (محمد مهدي الجواهري) في قصيدته الخالدة دجلة الخير حيث قال :
يا دجلة الخير كم من كنز موهبة
لديك في القمقم المسحور مخزون
ونزولا عند رغبة صديقي العزيز و تقديرا لموهبته الواضحة فقد قرأت القصيدة بروية وتمعن محاولا سبر عالمها موازنا بينها وبين قصيدة (كاسات الغرام) التي نظمها حسن مغازي مع اعتذاري سلفا لصديقي لإقدامي على الموازنة بين قصيدته وما يسمى مجازا (قصيدة) حسن مغازي .لأن المقارنة والموازنة إنما تصح بين الاشباه والنظائر ، ولا يمكن بحال الموازنة بين قصيدته وبين هراء حسن مغازي .ولكن الذي يعطينا المبرر لهذه المقارنة هو كشف حجم الزيف الذي يحيط بعض الاشخاص انفسهم به . راسمين لأنفسهم صورة لا وجود لها إلا في مخيلتهم المريضة التي تصور لهم أنفسهم وكأنهم ( فرسان الشعراء) وبأنهم (شيوخ النحو) وما الى ذلك من ألقاب لا تغير من واقعهم البائس إلا بقدر التغيير الذي يحدثه ( مقالك للأحيمق ياحليم ) .
القصيدة التي وصلتني هي سبعة عشر بيتا في الغزل .وهي من البحر الطويل ومن الضرب الأول ( مفاعيلن) .
و أول ما استوقفني هو اختيار الشاعر لهذا البحر الذي يحتاج الى نفس شعري طويل وتمكن من ناصية اللغة لكي يستطيع الشاعر اكمال فكرة البيت بلا إعياء ولا حشو ولا إقحام لكلمات لا لزوم لها الا لغرض إتمام التفعيلة الطويلة، وهنا نجد الشاعر الشاب (آنذاك) قد نجح في مسعاه وقدم لنا نسيجا متناسقا يدل على موهبته وقدرته على النظم . وعلى العكس من هذا وجدنا في ما نشرنا للدكتور حسن مغازي سابقا في قصيدته عن ميلاد الرئيس السيسي وقصيدته كاسات الغرام والتي هي من البحر لبسيط الذي حوله مغازي الى مستنقع. نجد عنده انقطاعا في الأنفاس وحشوا لا مبرر له ولواصق بدت كأنها أورام حمر تتدلى من است قرد عجوز .
والشيء الآخر اللافت للنظر في هذه القصيدة هي المعجم الذي استعمله الشاعر. ويبدو تأثر الشاعر بالمحيط العربي التقليدي – وربما هذا هو انعكاس لقراءاته الشعرية – فإننا نجد كلمات وتعابير استخدمت قديما من أمثال: (ذراني . كبد حرى. مأكمة . البدر حف به الدجى . النظر الشزر . الخافق . ذوي الحجا . الالباب . الريم. الجوى . هسيس . ) وغيرها . وإذا طبقنا ما يكرره الدكتور مغازي من ان الشعر هو معجم ونغم فسنجد ان صديقي الشاعر الشاب العراقي قد تفوق كثيرا على نظم حسن مغازي . لاستخدامه البحر الطويل المعروف بفخامة موسيقاه ورزانة إيقاعه ، وانتقاء الألفاظ السليمة والفخمة المناسبة لإنجاح ما أراد تصويره وإيصاله للمتلقي ، بينما نجد الدكتور المغازي يغرق في تفاهة معجمه الذي استخدمه في قصيدته( كاسات الغرام) واستعماله كلمات ( سونتيان ، الآي لاينر ، أطلقت سبلي، ترلي ) مثلا تمثل فضيحة كبرى لشيخ النحو وموسيقار الشعر العربي الذي نجد شابا لا يمتلك شهادة عليا ولا القابا كالتي امتلكها مغازي .نجده يتفوق كثيرا ويحلق عاليا في ( المعجم والنغم ) جناحي القصيدة كما يراها مغازي .
الأمر الثالث هو صدق عاطفة الشاب ونجاحه في نقل هواجسه وأحلامه ونوازعه ومكبوتاته للقارئ . حتى ليخيل إلينا أننا أمام صورة حية ناطقة متدفقة دافئة قد تحملنا على التبسم والعجب من اندفاع الشاب في مشاعره وبثه أعمق هواجسه وأخيلته وقد نجح في رسم صور شعرية لطيفة ، بينما في الجانب الآخر نجد البرود والتكلف والركاكة وتخثر المشاعر وتبلد الاحاسيس صفات طاغية على نظم دكتور حسن مغازي . فقد خلت قصيدته من أية صور جذابه . وخلت كذلك من التعابير المدهشة ، وافتقرت الى الرشاقة في النظم والجمالية في التعبير فكانت قصيدته عبارة عن مستنقع آسن لا يطرب فيها إلا ضفدع معجب بنقيقه المزعج .
والأمر الرابع اللافت للنظر هو وحدة القصيدة التي كتبها صديقي العراقي فهي لم تخرج من إطارها الغزلي بينما نجد ما نظمه د. مغازي تشرق وتغرب خلطت (الخليل وسيبويه والنقد والنحو ) مع ( السونتيان، والاي لاينر، والسيف ، والفراولة ، ترلي) . و كان ضياع وحدة النسج وتمزقه صفة بارزة للقصيدة التي ليس فيها ما يثير خيال أحد .
وثمة ملاحظة على قصيدة صديقي . وهي انها كانت تقليدية تماما تتبع قصائد القرون الاولى فلا وجود فيها لأي اشارة حضارية تدل على ان صاحبنا يعيش في نهاية القرن العشرين . والذي يقرأ القصيدة لا يعرف بالتأكيد من خلال النص ان الشاعر هو شاعر معاصر وليس من شعراء القرن السابع الهجري مثلا ! . ولكن ما يشفع له أنه لم يقدم نفسه شاعرا وفارسا من فرسان الشعراء . ولم يدّع أنه شيخ النحو أو موسيقار الشعر العربي . وانا بدوري أحيي موهبته التي ارجو ان تكون قد تطورت كثيرا لكي يتحفنا بجميل قصائده
*************
قصيدة صديقي الشاب العراقي كتبت سنة ١٩٨٠م :
١-ذراني فإن اليوم قاتلتي السمرا
وهل يشتفي من عنده كبد حرى
٢_ بليتُ بقدٍ أتقن الله صنعه
ومأكمة رُجّت فأذهلت الفكرا
٣_ ووجهٍ كأن البدر حفّ به الدجى
وعين تريك الحب والنظر الشزرا
٤_ فداك فؤادي ما حييت توددا
خذي خافقا بالحب لا يرتجي خُبْرا
٥_ وزيدي جنون العشق ساعة نلتقي
متى يلتقي ثغري – وما علم – الثغرا
٦ وقائلةٍ ماذا مجيئك ها هنا
وما علمت قلبي بلوعتها جمرا
٧_ لها لفتة أعيت عقول ذوي الحجا
وخلّفت الالباب تجترع المُرّا
٨_ وثغر كزهر الصبح قبّله الندى
وعين كعين الريم تهدي لنا الخمرا
٩_ وساقان سبحان الذي صاغ تحفة
ووجنات خدّ أعيت الشاعر المغرى
١٠- فليت الذي أغوى الفؤاد بسحره
يجسّ عروقا صرن في خافقي شعرا
****
١١- أديري عليّ الكأس ساعة هجعةٍ
فما عرفت روحي سوى عندك السكرا
١٢- وخلّي هموم الأمس خلف وسادةٍ
وبثّي ضجيع الحلم في شبقٍ سرّا
١٣خذي خافقي رهناً وزيدي له الجوى
وعرّي رفيق الليل في حلمه قسرا
١٤-وخلّي هسيس الحب يعلو وأطبقي
عيون المها تنسين من نشوة حِذْرا
١٥- ولا تفزعي فالرمحُ يُذعن طائعاً
وذوقي لذيذ الطعن والنشوة الكبرى
١٦-وخلّي يدي تزهو بفعل حرارة
وخلّي الشفاه السمر تلثمه الصدرا
١٧- وخليني أغفو بين نهدٍ وسرّةٍ
أزيح بها عن كل ذي عورة سترا
***********
(قصيدة) حسن مغازي المسماة ( كاسات الغرام )
يا لهفتى ثمِلا، كاسى فراولةٌ
من ثغرها تتدلّى فى الغرام إلَىْ
فى قُبلتى سَكِرَتْ أعمارُ نشوتِنا
قد أرعشَتْ جسدى قد أطلقَتْ سُبُلَىْ
يطغَى رُضابُ شفاهٍ فى ذُرا شَفَتَى
تجتاح عقلىَ بالآهاتِ وا خَتلَىْ
عقلى وقلبىَ فى نهديك يختبئا
ن السونتيانُ أبَى إلا ذُرا مَثَلَىْ
يا رشفتى غِردًا فى نار حلْمتِها
هدّت رزانتَنا، قوضْتِ لى خجلَىْ
أقدمْتُ رَعْوَنَةً إقدامَ مقتحمٍ
فى جيدها قُبَلًا، نورتِ لى زُحَلَىْ
والخالُ فى كَتِفٍ يغريكِ يا شفتى
سُمّاناتان هنا، أسكرْتُما دخَلَىْ
والنحْرُ مرتعشٌ، والكفُّ منسدلٌ
والأنفُ مشتهقٌ، والأذْنُ فى عَدَلَىْ
رَخْصٌ أناملُها، نهْرٌ ضفائرُها
خمرٌ مسائلها، يا نارُ، يا جذَلَىْ
يا جنةَ عَظُمَتْ يانورَ ظُلمتِها
أرغيتِ لى جَمَلى، عيشتِنى(تَرَلَىْ)
ماذا وقد علِقَتْ بالنار عاطفتى
تجتاحُها ضرَمًا، أحرقْتِ لى نُزُلَىْ
أنتِ البهاءُ، وأنتِ العشقُ أجمعُهُ
أنتِ الغرامُ، وأنتِ النارُ ياعسَلَى
منذ اعتليتُ ذرا الصهْواتِ يا فرَسى
كلُّ النساءِ أتينَ الكِذْبَ، وا وشَلَىْ
حتى الصباحِ رنَتْ عيناكِ فى هُدُبى
ذاب النهارُ، وقد أغربْتِ لى أُصُلَىْ
العلم يأسرنى فى مُغدِقاتِ نُهًى
أنسى بها غزلى قد هذبَتْ عضلَىْ
يا نشوةً سبحتْ فى العقل معلنةً
أنى لها أبدًا قد هدّْمَتْ خطلَىْ
كم فكرةٍ دَهِشَتْ فى عمق ذاكرتى
أخرجتها سلِسًا مستأصلًا عظَلَىْ
أنغامُ مؤتلقِ الشعر الجليل سَمَتْ
فوق المنصة يا عِلْمًا أناخَ علَىْ
مدّ الخليلُ يدًا بالعهدِ واثقةً
قبَّلْتُها نغمًا فاستأصلَتْ زغَلَىْ
عاهدتُهُ دمِثًا أنى له خَلَفٌ
بسْماتُهُ خلَطَتْ فرضِى بمنتفلَىْ
فى(الصرف)ذائقتى قد أُلْهِمَتْ فِكَرًا
يزهو بها سَلَفى حِلّى ومنتقلَىْ
أما بـ(نحوك)يا جدى(الخليل)فقد
رسخْتُ قاعدتى بالعهد فى شكَلَىْ
فى كل(قاعدةٍ)أطلقْتُ ذائقتى
فاستكشَفَتْ عللا يا ويحَ يا عِللَى
تقريب(قاعدة)من أختها كشفَتْ
كل(التناقض)هذا منتهى أملَىْ
طهرْتُ قاعدتى يا(سيبويهِ)وقد
عض(الخليل)على جهدى و(عنعن)لَىْ
و(النقدُ)رغردَ واهتزتْ مِنصّتُهُ
يا خيلَهُ غُرَرَ الجبْهاتِ يا صهلَىْ
عيدانُ مِنبرِهِ غنّت(مقام صبا)
قالت(فداكَ لقد طببْتَ لى حوَلَىْ)
(آى لايْنَرِى)غرٍدٌ والرِّمْشُ سيفُ رِضًا
يا مِرْودًا كحلت نبْضاتُهُ مَيَلَىْ