ظلت صلة أدونيس بالتراث الشعري العربي، والتراث الفكري وقراءته لهما، محل سؤال من لدن قرائه ونقاده، كونها تأتي في سياق مواقف معلنة لأدونيس حول الصلة بالتراث ، تعرضت للتشويش وسوء الفهم غالباً، لاختلاطها بالحماسة التبشيرية التي عاشها أدونيس في مرحلة ولادة قصيدة النثر العربية ،من خلال جهده وأصدقائه في مجلة ( شعر) البيروتية في الدعوة لهدم الثوابت في الشعر، ومراجعة القناعات السائدة. وكذلك بسبب قراءته التالية للفكر العربي بمقياس الثبات والتحول الذي اعتمده في تلك القراءة ، حتى بدا للعابرين من نقاد الكتابـ أنه يريد ان يجعل التراث ماضياًمصنفاً في باب الثوابت التي لابد من رفضها وإحلال المتغير المعرفي والأدبي محلها. ولم تكن وجهة نظر أدونيس بذلك الوصف بل على عكس ما قد يبدو رفضاً للتراث إنما هو دعوة لإحلاله مؤثراً ومكوناً شعرياً ومعرفياً.ولكن بغربلته، وتمييز مواده وانتقاء ما يوائم العصر من جهة ، وتجربة الشاعر ذاته من جهة أخرى. وليس قبوله كصفقة واحدة أو كماض مقدس ومتن مكتمل و مغلق الدلالة .
التصوف في مرايا أدونيس ونصوصه
تتذبذب صلة أدونيس بالتراث الشعري، من القول بأن الشاعر لا تراث له، في بواكير حماسته للتحديث ، وبين اعتماد منظور شخصي للشاعر (ينتقي ) من خلاله – أي الشاعر- تراثه ضمن التراث.
نستعيد هنا ما كتبه أدونيس وهو يدرس تعلق الشاعر يوسف الخال بالتراث ( التراث لكل شاعر هو في المعنى الاخير انتقاء من الإمكانات والقيم التي يزخر بها. وليس أخذاً بالجملة لهذه القيم والإمكانات.هذا الإنتقاء لا يعني إهمالاً للقيم الأخرى أو ازدراءً، بل يعني شيئاً واحداً هو أن الإنسان لا يستطيع أن يأخذ إلا ما يوافق تجربته وحياته وفكره.إذن لكل شاعر حقيقي ، تراث ، ضمن التراث الواحد) ..
وترافق هذا التنويه بالإنتقاء وعدم الأخذ بالجملة ،مع توسيع مفهوم الموروث ،ليشمل الثقافة الإنسانية ، سواء ما جاء منها رمزياً أو أسطورياً.تمثَّلَه أدونيس ذاته بدءاُ من اختياره اسمه الشائع اليوم، بدلاً من اسمه الحقيقي علي أحمد سعيد، ومن سعة الثقافة العربية ذاتها وعدم اقتصارها على الشعر المنظوم.أعني تلك الشطحات والإشراقات الصوفية في نثر قريب من الشعر في تكثيفه وتخليصه من المباشرة وتلبية الأغراض التقليدية التي استخدمها الكتاب في نثرهم.، و كذلك تميز النثر الصوفي كإشراق وتجليات روحية بارتفاع سقف مجازه، وانتمائه للجوانية الفردية كعبادة، يتمسك بها الصوفيون رافضين التقاليد الجمعية .والعودة إلى الذات هي إحدى مرتكزات أدونيس الحداثية لتأسيس الذات مقابل الجماعة، والإنعتاق من ربقة السيطرة الجمعية وثقافتها التقليدية التي لا صوت للفرد بها.
وهذا ما حمله إلى المتن الصوفي المهمش في الثقافة العربية.وكان لأدونيس فضل التنويه به وانتشاره.وفي مقدمة ذلك مواقف النفري ومخاطباته.وسيل من إشراقات ابن عربي وسواه ممن سيكون لهم وجودان في ثقافة أدونيس الشعرية:
– فهو يتناص مع مقولاتهم ويندمج في سيرهم ويضع لهم نصوصاً يتقنع فيها بأقنعتهم وأسمائهم
– أو يتخذهم رموزاً، يصنع لهم المرايا الشعرية التي يظهرون فيها كذوات فاعلين . ومن جهة أخرى سيكون مما يميزه وجود التصوف في شعره لغةً وإيقاعاتٍ ودلالات . يجمعه مهم الخيال الذي جعله يربط خطابهم بالسوريالية في كتاب يقرنهما عنوانه معاً. ويتلمس المتشابهات في مرجعياتهم الخيالية والمجازية ،وريادتهم لمناطق اللامعقول اللفظي والصوري..
وربما يكون في قراءة مختاراته من النثر العربي مناسبة للمقارنة بما صنعه في في مختارات من الشعر القديم ، أهمها دون شك ديوان الشعر العربي.رغم أنه يمتد لعصور متأخرة وحديثة..
وهو يخصص للنثر الصوفي اثنين من أجزاء( ديوان النثر العربي) الأربعة.إشارة لما يوليه من اهتمام، لتمركز خطاب المتصوفة حول الذات موضوعاً.واللامألوف وغير العادي أسلوباً. وهما معياران واردان باطراد في تقييمات أدونيس، واشتراطات قراءته للمتون. فهو يصف نثرهم بأنه (نظام قائم على رفض مبدأ السلطة، وكل مثال أو نموذج مُسبّقٍ جاهز. إنه مناخ معرفيّ لهدم سلطة الخارج ، وبناء سلطة القلب). وقد حاول أن يجعل الشعر والبلاغة القرآنية مقياسين يحيد عنهما أو يقترب منهما النثر العربي عامة.والنثر الصوفي خاصة. وهذا إسقاط معرفي آخر . فأدونيس هو الذي يمارس هذه المقارنة في كتاباته لاسيما بين الشعري وسواه.
كتاب المتنبي برواية أدونيس
عبّر المتنبي بين رصد سيرته وشعره.ومن جهة أخرى تشدها أيضاً ثنائية السيرة الشعرية في الكتاب: بين أن تكون سيرة غيرية يرويها أدونيس، مسقطاً قراءته وما يتشكل عنده من صورة للمتنبي، وبين سردها ذاتية بلسان المتنبي.
تموضع أدونيس في موقع جعله- من جهة – المؤلف السيري المسمى والمعروف. ومن جهة أخرى جعل المتنبي سارداً سيرياً.أما أدونيس فاكتفى بتسمية نفسه في عتبة الغلاف ،بأنه محقق المخطوطة التي تنسب للمتنبي.
إنه بذكاء ولعبة تأليف طريفة يحفظ حقه .فالمتن السيري ( منسوب ) للمتنبي.وسيكون ما في هذا المتن السيري الذاتي من كِسَر وأجزاء وصفحات ليست للمتنبي على وجه التأكيد والحسم.فهي أشياء تنسب له نسبة.ويكون للمحقق وظيفة أكبر فيها من بعد.حتى تتسلسل حلقات العائدية النصية إيهاماً بتوجيه من العنوان كالآتي
أدونيس – الشاعر- محقق المخطوطة -التي تنسب للمتنبي- المتنبي
فالعنوان يقترح وقفة طويلة لأنه يوجه القراءة . وهو بالكامل وكما جاء متنضداً على الغلاف الداخلي:
أدونيس
الكتاب
أمس المكان الآن
مخطوطة تُنسب إلى المتنبي
يحققها وينشرها أدونيس
وقد اختصر العتبة العنوانية على الغلاف الخارجي بالآتي:
أدونيس
الكتاب
أمس المكان الآن
الكتاب يمكن تأويله بأنه ترميز لجمع السيرة كلها بين غلافيه.أو هو تداع من اتهام بادعاء النبوة. فالكتاب هو ما يحمل من وصاياه ورسالته للعالم.لكن جزئياته لا تعني موافقة أدونيس قطعاً على وجود ذلك الإدعاء. فالمتنبي أشد ذكاء من ادعاء كهذا في عصر استقر فيه الدين ،وتركزت شعاراته وشعائره، وتكرست مؤسساته وأسسه. وإن برزت أناه الضخمة في ثنايا مخطوطة الكتاب.كما هي في شعره.
وعبارة( أمس المكان الآن) تنقل الحدث إلى سياقيه الزمني= الماضي.والمكاني= ما جابَ المتنبي من فضاءات جالت فيها خطاه وقصائده. وما التقى من بشر في أمكنة شتى. فكان الإستحضار مضاعَفاً.يجمع بين زمن السيرة ومكانها.كما يضع القارئ المعاصر الذي يلي أدونيس في قراءة سيرة المتنبي في لب العمل، كي يحس بهذا التشاكل بين شعر المتنبي وفكره، مع العصر الذي تقرأ فيه سيرته أي الحاضر.
ويكون أدونيس بذلك قد وهب المتنبي الخلود وعبور الأزمنة.وهو ما تمناه المتنبي نفسه.وما يريد أدونيس أن يموضع المتنبي فيه من معاصرة وحداثة ،رغم تراثية خطابه، وقدمه زمنياً. كما يحقق أدونيس بهذا العمل ما يراه نظرياً من اختيار أو انتقاء (الإمكانات والقيم) التي يزخر بها شعر المتنبي.
أما إضافات العنوان على الصفحة الداخلية، فهي التي استدعت استذكار ضمائر السرد والعائدية السيرية في الكتاب .فالعمل موصوف بأنه (مخطوطة).وهذا تحديد لهوية السيرة بكونها مستجلبة من متن قدديم ،لم يطبع في حينه.فجعلها مخطوطة.ثم ليجد لنفسه موقعاً في هذا المحفل الإفتراضي فكان هو محققها .وهي (تنسب للمتنبي) كي تظل في إطارها الزمني الماضي ، وتحيل إلى كاتبها الشاعر أدونيس نفسه.فهي منسوبة للمتنبي. وذلك يعني أنها غير مؤكدة العائدية له.. اما الأفعال العائدة لأدونيس فهي مضارعة تحمل معنى الحدوث في الآن الحاضر.(يحققها وينشرها أدونيس).
إن الذات السيرية هنا مزدوجة.يأخذ المتنبي ضمير التلفظ وناصية السرد الذاتي .هو راو داخلي عليم بحدود مايسمح له بذلك موقعه كم السيرة. وهو خارجي حين يقتحم أدونيس السيرة لتغدو(عن) المتنبي.ثم يقتحم التاريخ والرصد الزمني لما يحايث السيرة من وقائع ،شكلت أثراً في حياته ووعيه .بل تعدت ذلك إلى مصائر نصوصه ومآلاتها اللاحقة.
ليس المتنبي هنا ذلك البطل الذي نسجت الأخبار عنه مثال التنفج والفخر الفردي والكبرياء.إنه وحيد في كل بلدة.إذا طلب الخمر وجدها دون أليف.وإذا تذكر الاوطان خلت من الخلان.فقْدٌ كبير ظل يسم حياته بالنقصان.إذا عظم المطلوب قل المساعد.وإذاأراد أن يختار تختار له الدنيا .فيلعنها.ويختار له السلطان حياة غير ما يريد، فيفارقه سريعاً على أقبح الوجوه.كما يقول
سيظل للمتنبي بيت المجاز الذي عوضه عن بيت مفقود، آمن وظليل.فبنى في مجازاته ما افتقده في معيش أيامه .وهذا ما ركّز عليه أدونيس في صنع سيرة منزهة وممجدة للمتنبي، تتجاوز عثرات حياته وتقلباته النفسية.وكانت قراءته لكتاب حياة
المتنبي استناداً إلى وقائع ومقاطع من مرجعيات ثلاث :
شعره
أخباره
سياق حياته تاريخياً
هنا تشتبك مرجعية النصوص ، والسيرة الخبرية ، والأحداث التي أطرت حياة المتنبي.بل ذهب أدونيس بعيداً في الزمن، ليسرد أحداثاً ، رأى أنها تشكل الجذر الذي منه يتنزل نسغ قصيدة المتنبي وسيرته.
وكتجسيد لأشتباك حياة المتنبي في تلافيف معقدة ومتفرعة ، فقد عمد أدونيس إلى تجريب جديد في الشكل الخطّي للعمل.
فقد جعل الكتاب منقسماً في كل صفحة إلى أربعة أقسام:
– متن شعري مؤطر في الوسط مرقم بحروف المعجم العربي
– هامش شعري تحته مكثف قصير، لايزيد أربعة أبيات أو خمسة -.
– حاشية على اليمين تسرد أهم ما دار من وقائع وأحداث في زمن سرد السيرة بدءاً من ولادة المتنبي حتى موته.
– حاشية علي يسار الصفحة تفسر بعض الأسماء وتبين مغزى بعض التواريخ ودلالاتها.
هذه القراءة المركبة تزيد التباسات التلقي وصعوبته.يضاف لذلك اختلاط الاشكال الشعرية وتنوعها ، ففيها وزن تقليدي.وشعر تفعيلة، وقصائد نثر.تتقاطع مع التاريخ والأقوال المضمنة في الهامش والحواشي.
كل ذلك يؤثث به أدونيس عمله بمعماره الفخم والمتنوع مظهراً وعمقاً.
ديوان البيت الواحد
.يصف أدونيس
يصف أدونيس (ديوان البيت الواحد)عمله الآخر الذي يمكن أن نتلمس فيه رؤيته التراثية ومرجعياته خارج نصوصه ، بأنه (محاولة أخرى لبناء سياق مشترك بين ماضي الشعر العربي وحاضره. تنهض هذه المحاولة على قاعدة البيت الواحد. وهو بيتٌ يقوم على الفكر – الوَمْضة، أو الصورة – اللمحة، أو المعنى – الصورة. هنا في البيت الواحد، يَصفو الإيجاز، وتتكثَّف حكمة البداهة وبداهة الحكمة. هنا كذلك يُرتجل العميق الغامض، وتتعانق الرواية والشفوية. هكذا ينفتح مجال آخر لامتحان التجربة، رؤية وكشفاً).
إن وصف الأبيات المختارة بالغنى والعمق قد تنطبق على الأبيات المنظومة منفردةً بالقصد ، وليس التي تنتزع من سياقاتها كما فعل ادونيس وهو يختار بيتاً ذا دلالة ليزرعه مفردة في (ديوان) ليكتمل بسواه مما يختاره أدونيس.
وبجامع فني للأبيات وجده أدونيس في قيام هذا البيت على الفكر الومضة، أو الصورة اللمحة والمعنى. وبجانب ذلك تتحقق شروط فنية ؛كالتكثيف والإيجاز.كون البيت الواحد لا يحتمل امتدادات المعنى أو توسع الصياغات .
إن أهمية مختارات ادونيس البيتية هذه – بجانب الفهارس التعريفية بالشعراء- تأتي من وثوقنا بذائقته وتأويلاته التي تُسقط على المختارات ظلالا معاصرة، هي التي جعلته يعد عمله ربطا لماضي الشعرية بحاضرها، أو كأنه يبحث عن مستندات لفكر شعري مطمور وسط لجة الطقوس النصية والمقدمات والمجازفات البلاغية .وتتكرر بعض المختارات الموجودة في عمله الأول (ديوان الشعر العربي ) كدليل تركزها في شعوره ووعيه معا.لكن نصيتها تظل موضع سؤال، لأنها تَراجُعٌ ذوقي ونقدي عن وحدة القصيدة وكليتها.
ويفلح أدونيس حين يشبه القصيدة الجاهلية بالخيمة في الفضاء الصحراوي المحيط بالشاعر.فهو يجسد صلة القصيدة بسياقها ،والشاعر بمحيطه. ويحل الإشكالات الفنية والجمالية في الشعرية العربية الموروثة؛ كالتمزق الموضوعي في النص القديم ،والمقدمة التقليدية ، وغيرها ..ولا يعني ذلك الدعوة لدراسة اجتماعية مثلا ، بل لتلمّس مؤثرات ومشغّلات النص القديم. والخيمة هنا تشبيه يبرر ويفسر ايضاً، تفكك القصيدة الجاهلية المتمزقة في أغراض شتى، كما تلاعب الرياح الخيمة وتعبث بها. وما ينطوي تحتها .
شعرية التساؤل
لا يعيب أدونيس (الإسقاط )كفعل قراءة معرفي يأتي كإجراء خلال ما نشره من تعامل مع الموروث ..فما فعله في المختارات في كتابه المهم (ديوان الشعر العربي)المنبه لمزايا الشعرية العربية القديمة ، هو البحث عما يعزز أطروحاته. وهذا شيء صحي ومفيد للقراءة المعاصرة للتراث. وقد توضح ذلك بشكل أكيد حين حصر أدونيس الشعر العربي بين قوسي ( القبول والتساؤل) رافضاً ما اتسم بالقبول؛ لانه ينطوي على ( رضى وطمأنينة ويقين) يقابله في التساؤل (الرفض والتمرد والشك) الذي يرضي ذوقه ورؤيته .
في سبيل البحث عن نصوص التساؤل في الشعرية العربية ينهج أدونيس طريقة التبويب ؛ليضع كل نص في حقل مناسب من وجهة نظره.وبذلك حصر الشعر العربي -المتسائل طبعا – في خمسة اتجاهات .ولا نحسب أن المتراكم من الشعر العربي الموروث يتحدد بذلك، حتى عند من حاولوا حصره في أغراض كبرى، وموضوعات موصوفة مقننة.
وجهان للقراءة الأدونيسية
إن الانشطار في الشخصية القارئة لدى أدونيس بين الذات الحداثوية في الشعر، والمستعيدة للماضي في الفكر – وإنْ في مقام المُساءَلة والإنتقاء – قد تحكمت في توليد ثنائيات متراكمة بشكل لافت لديه ؛كالإتباع والإبداع، والثابت والمتحول ، والماضي والتراث ، والحداثة والتجديد، والرفض والتمرد ،والقبول والتساؤل، واليقين والشك…
كما انشغل أدونيس عند معاينة التراث بالبحث عن جذر ضارب وقديم لشجرة الحداثة. فوجده في شعر (أبي تمّام) الذي يعد شعره بداية خط التحديث الشعري والإنتقال إلى شكل شعري يستعين بالصورة وطاقة المجاز لتجسيد فكرته. أما عن المقلدين والماضويين فقد وجدهم أدونيس يبحثون عن نموذج أصل ، أو يؤصلون الظاهرة ليمنحوها وجودا أو شرعية.. بمعنى أنهم يصنعون النموذج أيضاً ،ليستقر من بعد كتقليد.
وبالعودة إلى المقتطف السابق حول تراث الشاعر ضمن التراث، نعثر على ثلاث أفكار مهمة حول صلة أدونيس بالتراث وموقفه أو رؤيته:
– فالتراث: انتقاء ،يوافق تجربة الشاعر،ويخصه وحده.
وبهذا الإحساس قام أدونيس بالفصل بين التاريخ الشعري ،والتاريخ السياسي والاجتماعي. وهو ما قامت بتقديمه دوما المدرسة العربية لطلابها وأتبعه باحثوها من بعد. وفصل بين الشاعر وشعره ،والشاعر وبيئته وظرفه العام. وهو محصول يعضد الخطاب النقدي الحديث في إعلاء النص والذات الشاعرة، بعيداً عن إقحام الخارج في تحليل النصوص.
وبذا أصبح الإنتقاء موقفاً فكرياً ،وليس ذوقياً فحسب.
يطمح أدونيس أن يقدم ما يسميه متحفاً للشعر العربي(مختصراً وجامعاً). وهذا انحياز واضح للحاضر.فالنصوص المعروضة متحفياً قد تجمدت وكفّت عن الحياة إلا بأثر سابق، وضمن سياق الماضي الذي جاءت منه.فهل يريد أدونيس العودة ثانية لمقولته المبكرة :إن الشاعر لا تراثَ له؟ والتي غادرها نهائياً بموقفه الانتقائي الجديد.
إن وصف (المعرض) أكثر ملاءَمةً من المتحف.فالمختارات تقدم شريحة مقتطعة من سيرورة الشعرية العربية في زمن محدد.وهي معروضة للقارئ كي يتفاعل معها وينفعل.وهذا ما لايمكن أن تقدمه النظرة المتحفية التي يهمها التسلسل التاريخي أكثر من الأثر الفني..
كخلاصة نقول إن البحث عن نصوص التساؤل في الشعرية العربية هي جوهر عمل أدونيس ،عبر قراءة التراث الشعري التي تتيحها المختارات كفعل قراءة نقدي- انتقائي- وذاتي- ومتصل بتجربة الشاعر، كما يقترح أدونيس للصلة بالتراث .
وفق ذلك سارت منهجية أدونيس ؛ليقدم مقتربات كان لها أكبر الأثر في ما أسميه عدوى القراءة، بالمقاييس ذاتها ، والتي انتقلت لمعاصريه من الشعراء،وقرائه بالضرورة.
أما مرجعيات شعر أدونيس التراثية، ووجوده في شعره ،فتتمدد من آرائه السالفة.وبهديها بحث عن أسلاف وآباء شعريين، صهر لغتهم ومخيلتهم وصورهم وإيقاعاتهم في خطابه الشعري .وهذا مبحث آخر له مجال مستقل للدرس والبحث النقدي.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *