بالأمس شهدت جملاً ينحر، كان أثر ذلك عليّ كأثره على طفل يعرف أول مرة عن الموت والتكاثر ونهاية مطاردة الغزلان.لقد شهدت في حياتي عدة عمليات احتضار لكائنات مختلفة، بعضها لبشر يتلوّون وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، ويتفوهون بكلمات عجيبة لا تخطر على بال، أحدهم سقط من أعلى بناية، كان يصرخ بكلمة آه، رغم أنه لم يكن يتألم بعد، أكثر ما بقي في ذاكرتي من مشهد السقوط هو صوت ارتطامه بالأرض، صوت كأنه نبضة عنيفة، لكن لا شيء يشبه موت ذلك الجمل المهيب، ربما بسبب الزاوية التي كنت أنظر منها للموضوع، وهي نتيجة لكثير من التراكمات.للجمل رقبة طويلة جداً، وهو لا يذبح كسائر الكائنات، بل ينحر نحراً بإدخال سكين أشبه بالسيف في رقبته -بعد أن يربط بطريقة مؤلمة-لتبدأ بعدها حفلة احتضار رهيب.من سوء حظي أن ذلك الجمل لم يكن قد ربط جيداً، وما أن أدخلت السكين في رقبته حتى أفلت رأسه، وصار يدور ويدور متألماً، مهتاجاً بصورة مفزعة.حملت تلك الثواني سلسلة من المشاعر النهائية، ذلك النوع من المشاعر الذي يكون نهائياً وقاطعاً بما لا يقبل النقاش أو العزاء.رأيت في عينيه الذعر بعد أن لاحظ أن دمه يتدفق بغزارة، توسعت عينه وأطلقت تساؤلات فلسفية يمكن اختصارها بكلمة (لماذا)، يبدو أنه مثلي يبحث عن تبريرات تخفف من حدة الموقف.بعد أن بدأت قواه بالخوار، دخل في مرحلة استسلام مؤلمة، كملك أزيح عن العرش، فهو لا يتمكن من التنفس، وها هو يتمدد طالباً الرحمة، تلك الكلمة التي ستشعر بخلو الكون منها لو كنت تنظر إلى عينيه في تلك اللحظة.أعتقد أن الإنسان يبحث بطبعه عن التبريرات لا الحقائق، وأغلب بناءاتي الفلسفية خليط من التبريرات والأحلام لتفريغ التوتر، لكنني كلما شيدت منظومة فكرية تنهار بمشهد كهذا، نحن نعيش على آلام غيرنا، هذه هي الحقيقة، ثم نكسو ذلك بما تجود به قرائحنا من مبررات.عندما مات، بقيت عينه مفتوحة، لم أستطع أن أبعد عيني عنها، وأعلم جيداً استحالة مرور هكذا مشهد دون عقاب.كم من الصعب أن أجد في سنواتي القادمة، آلهة أو أفكاراً، تستطيع أن تمد يدها لتمسح رأس ذلك الجمل المهيب، تمر على جفونه، تساعده على اغماض عينيه بعد أن خارت قواه، لعله يستطيع أن ينام لمرة أخيرة… بسلام.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *