إن الفكر الإنساني في مسيرته التاريخية ، هو سلسلة تطور مترابطة الحلقات ، و لا بد لنهضتنا العربية التجديدية أن تدرك هذه الحقيقة ، و تستفيد من هذا التطور ، و أن تتخذ مسارا تكامليا مع الثقافات العالمية المعاصرة و في مقدمتها الثقافة الغربية .. أعتقد أننا في نهضتنا الثقافية العربية الحديثة ، ينبغي أن نخرج من التناول النمطي الذي دأبت عليه الكثير من نخبنا الثقافية ، و الذي يركز على نقد الثقافة الغربية الى حد الإزراء بها و التهوين من شأنها ، و هو ما جعل بيننا و بين الغرب حاجزا نفسيا مستمرا يكرّس معاني الكره و العداء ، و يحول دون التفاهم و التفاعل الإيجابي . غالبا ما كان يأتي هذا التناول النمطي ، من نخب ثقافية مؤدلجة إسلاموية أو قومية أو يسارا راديكاليا ، يقابله الذوبان و التمجيد المطلق للحضارة الغربية من نخب ثقافية عربية محدودة المساحة على الضفة المقابلة ، و تقلّصَ هامش الرؤية الموضوعية الوسط .

حين ننظر لمسيرة البشرية التاريخية في تطورها الفكري و الاجتماعي بتسلسل مترابط ، نستطيع أن ندرك أن ما وصلت اليه الثقافة الغربية في الفكر السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و التطور التقني ، إنما يعبّر عن مرحلة بلغتها الإنسانية ككل في مسيرتها ، و يجب أن تتناغم و تتفاعل معها مجتمعات العالم ، فليس من الصحيح أن نعتبر أن الغرب هو الذي يفرض علينا ثقافته و قيمه ، و إنما التطور الفكري في مسيرة الإنسانية بلغ على يد الغرب ، مرحلة يحتاج المجتمع البشري لاستيعابها و التفاعل الإيجابي مع معطياتها . و من الطبيعي أن المسيرة البشرية ، يجب أن تصل في تطورها الفكري ، لا سيما في عصر العولمة ، الى رشد يقودها نحو المشترك الإنساني الذي يتسامى على الانتماءات و الثقافات و العادات .

إذا لم يحصل التفاعل الإيجابي مع الحداثة انطلاقا من الرؤية المتقدمة ، فإن الموقف السلبي سيتحول الى تحدٍ للحضارة الحديثة بل الى قوة تجر المجتمعات الى الوراء ، و هذا جوهر الصدام الحضاري الذي تدفع البشرية و على رأسها مجتمعاتنا ضريبته .. لا أحد ينكر وجود مفارقات و سلبيات لدى الغرب على عدة مستويات ، لكننا يجب أن لا نتورط في التعميم ، و يجب أن لا نهمل وجود عملية النقد الذاتي لدى الغرب نفسه و التي رافقت الحضارة الغربية منذ قيامها و الى الآن ، و يجب أن نعترف بالآثار التي أحدثتها مواقفنا السلبية كأمة ، من الغرب و حضارته عند الغربيين، و التطرف المشبع بالعدوانية و العنصرية الموجود في ثقافتنا ضد الغرب و الذي أوجد رد فعل سلبي استغلته جهات معادية لنا في الغرب ، و يجب أن لا نغفل عن حقيقة أن تناقضاتنا الداخلية و أوضاع التردي التي عشناها و نعيشها ، أدت الى ضعفنا في ميزان القوى الذي تُبنى في ضوئه السياسات . . أعتقد أننا بحاجة الى مقاربات جديدة و مختلفة عن الطرح النمطي الذي ساد لدى المؤدلجين في القرن العشرين بشأن الموقف من الحضارة الغربية ، التي يجب أن تكون نخبنا الثقافية ، التي تتمتع بالنضج الحضاري و الانفتاح الإيجابي ، طرفا معها في صياغة ثقافة عالمية تنطلق من التطور الذي بلغته هذه الحضارة عبر حوار تفاعلي معمق بنّاء مع الغرب .

لقد دعوتُ منذ التسعينيات الى الحوار العربي – الغربي ، ليس على المستوى السياسي فحسب ، و إنما على المستوى الفكري و الثقافي ، فلا بد من تجسير العلاقة بين النخب الفكرية العربية التي تتسم بالاعتدال و الاستيعاب للواقع الثقافي العالمي ، و النخب الفكرية الغربية بكل تنوعاتها المعرفية ، و أن يكون هناك باستمرار حوار حضاري راقٍ ، لصياغة ثقافة تساهم في بناء مجتمع بشري متماسك على أساس الحرية و المساواة و التآخي ، يرفل بالعدل و المعرفة و الرقي .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *