منذ أكثر من نصف قرن نشر الأديب الكبير إحسان عبد القدوس قصته القصيرة الجميلة (الله محبة) تتحدث عن روميو وجوليت مصرية. شباب حالمون، عاشقون، طافحون بالأمل، يحبّون ويتزوجون بعاطفة إنسانية واصلة إلى الأعماق، من دون السؤال عن الدين، والطائفة، والمذهب.
لدينا في العراق من هذه الروائع حكايات منسيّة تصلح أن نكتبها قصصاً، ونؤلفها روايات، وننتجها في دراما فنية شيقة. إنها شهادات بليغة توثق للجيل أن العراقيين لا أصفى من نفوسهم، ولا أطيب من قلوبهم.
في البتاويين ببغداد، أعوام الأربعينات، كان هناك مسجد بالقرب منه حسينية وبجانبهما كنيسة، وكان الناس في هذا الحي يشعرون أنهم عائلة عراقية واحدة بلا خطوط طول، أو خطوط عرض. لا يفرّقون بين المسلم والمسيحي، ولا يعرفون من الشيعي ومن السنّي؟!.
ومثل هذه القصص حدثت قبل أكثر من نصف قرن أيضاً. عندما كان العراق مجتمعاً بأديانه وقومياته وطوائفه على بقعة صغيرة من الأرض، تشغلها محطة لتكرير النفط اسمها “ك 3” في بلدة حديثة على ضفاف الفرات. في هذه المحطة سكن عراقيون تعدّدت أديانهم، وتنوّعت مذاهبهم، وتلوّنت أعراقهم، إلا أن الجميع كانوا يشاركون الجميع في مناسباتهم. لا يسألون عن أنساب، وأحساب ، وأحزاب ، ومكونات.
وإذا كان عكَد النصارى أشهر أحياء بغداد التي سكنها المسيحيون، فمن الملفت للنظر أن أشهر منارة إسلامية في تاريخ بغداد، منارة جامع الخلفاء، لا تزال شامخة في هذا المكان أيضاً.
ويوماً حدثني الشيخ جلال الحنفي رحمه الله عن ذكريات من مجلس الأب انستاس ماري الكرملي في عكَد النصارى قائلاً: من الكرملي تعلمت اللغة العربية وهو من أضاف لي لقب الحنفي، مثلما منح العلامة محمد بهجت لقب الأثري.
وكحافظ وشوقي في مصر. كان النهران الخالدان معروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري يشكلان ثنائية السنّة والشيعة في الشعر أرجو أن تتكرر.
وعلى أيّام أبي نؤاس وباقي الشعراء، كانت بغداد متاحة للأديان والثقافات والناس جميعاً .
والأديب الانكليزي سومرست موم ، والأديب الايطالي ألبرتو مورافيا ، والأديب الفرنسي أندريه جيد ، والأديب الأميركي وليام فوكنر ، لم يقرؤوا من الأدب العربي صفحة واحدة ، سوى كتاب (ألف ليلة وليلة ).
وعندما أعدم البريطانيّون عبد المجيد كنّة من الأبطال المقاومين للاحتلال جرى لجثمانه تشيّيع هائل في بغداد، كان استفتاء على الوحدة الوطنية. شارك الشيعة والسنّة براياتهم. يؤكدان أن مساحات الوطن أكبر من مساحات الطائفة.
في هذه القصص كلها. كان العراق هو اللوحة الجميلة من الزجاج المعشّق بألوان قوس قزح، إذا خلعوا منها قطعة واحدة تعرّضت اللوحة كلها إلى التشويه.
جميع الطائفيين أنذال حتى لو تعلقوا بأستار الكعبة لن يغفر الله لهم.