يكشف التطرف السلوكي عن وجود ازمة في العقل ، تنعكس في المبالغة في الافعال، بعيداً عن الحسابات العقلانية المتزنة.
فالتطرف عقلية غير سويَّة و تفكير غير منضبط يعتقد اصحابه بانهم الوحيدون الذين يمتلكون الحقيقة والصواب وما عداهم باطل وخاطئ.
و حينما يطلق مصطلح التطرف ينصرف ذهن البعض الى التطرف الديني لانه الاكثر شيوعاً ، بينما هناك اوجه مختلفة للتطرف .
وقد حمل العقل العراقي ونتيجة عوامل ذاتية وموضوعية وموروثات اجتماعية ودينية ، انواع عديدة من التطرف ، حتى أضحى ظاهرة اجتماعية نشاهدها بوضوح في مجتمعنا ، ففي اي حدث ما ستواجهك افعال متطرفة تدعو للعجب .
فهناك تطرف في العنف تطرف في الحب تطرف في الكراهية تطرف في العداوة ، تطرف في الكرم ، تطرف في التكريم تطرف في الاخلاق ، تطرف في الدين ، تطرف في القومية، تطرف في المذهبية ، تطرف في الوطنية وتطرف في اللا وطنية والقائمة تطول .
و اينما تولي وجهك فثم نوع من التطرف .
فنحن متطرفون في الحب الى حد الجنون ، كما يقول النواب رحمه الله
” عراقيٌ هواي وميزةٌ فينا الهوى خبل ” ومثلنا الشعبي يقول ” حب واحچي … وإكره وإحچي ”
فعين الرضا عن كل عيب كليلة ، ولكن عين السخط تبدي المساويا.
متطرفون في العنف ، فتتبدل كلمات الغزل في القصيدة الغنائية الى كلمات العنف والانتقام ، ففي اغنية شعبية تسمع ” انا ابن عماره شايل غدارة ، شايل روسية وامي الحجية ” وفي اغنية خالي.. ها .. ها يقول
” اني ابن اختك وانخاني ،
كبلك طايح تلكاني
من صغري الشر رباني”
ويستمر شاعر الاغنية العنيفة في الاغيال بالعنف المتطرف فيقول :
” يمك لو دكت غاره
اني افزعلك طيارة
عالشر ندور دواره”
ويصل الشاعر الى الذروة في التطرف فيقول :
“سيف بجفك تلكانه
العايل نكطع ذرعانه
واليحجي نگص لسانه”
ومتطرفون في الكراهية ، فتتقلص مساحات التسامح لدينا الى حد استخدام الاسلحة الثقيلة في قضايا لا تستحق استخدام سكينة ، فمن يشاهد مظاهر الطيبة والكرم في البصرة لا يمكن ان يتصور ان هناك عشائر لا تسامح بعضها بعضاً وتستخدم كل ما لديها من قوة للانتقام من الاخر ،
ومتطرفون في العفو الى حد اسقاط الحق عن الجاني ، متطرفون في الكرم ، الى حد الاسراف والتبذير واحياناً الى اللامعقول .
فما شاهدناه في خليجي 25، وكذلك في اربعينة الامام. الحسين عليه السلام ، فاق حد الكرم الحاتمي، ورحنا نتمثل في بيت حاتم الطائي الشهير
” إذا ما صنعت الزاد فالتمسي
له اكيلاً فاني لست آكله وحدي
وَإِنّي لَعَبدُ الضَيفِ ما دامَ ثاوِياً
وَما فيَّ إِلّا تِلكَ مِن شيمَةِ العَبدِ
ومتطرفون في الطيبة ، فبضع كلمات من المديح قادرة على ان تمنح الاخر كلما يتمناه ، ولعل المثل العراقي هو مصداق لما نقول ” شيِّم المعيدي وأُخذ عباته”
وبيت شعر او قصيدة لحاكم او مسؤول كفيلة في ان تغدق عليك مالا تحتسب من العطايا .
فالعراقي انسان طيب ودود غيور ، يقدم لك المساعدة دون مقابل !!!! .
ومتطرفون في التكريم الى حد المبالغة والتفريط .
فمازال تكريم المنتخب الوطني العراقي الذي فاز ببطولة كأس الخليج مثار جدل بين العراقيين ، اذ بالغ المسؤولون وبعض المتنفذين من تجار ومصارف في تقديم الهدايا، وبالتأكيد ان هؤلاء الشبان يستحقون كل الشكر والتقدير والتكريم ، لكن ليس بهذا الشكل المتطرف ، الذي نزع بعض من الفرحة، في بلد فيه طوابير من الفقراء وتنتظر بعضا من هذا الكرم الحاتمي من المسؤولين .
متطرفون في الوطنية ، ونردد دوماً قول قتادة ابن ادريس ” بلادي وان جارت عليَّ عزيزة
قومي وان ضنوا علي كرام ”
فقد اشعل مصطلح الخليج العربي لهيب الوطنية وارتفعت مناسيبها ودخلنا في خصومات بينية ومعارك اعلامية ، بينما شعوب العالم لا تعير اهمية لمثل هذه الاثارات، التي لا تسمن ولا تغني من جوع .
ومن جانب ثاني متطرفون في اللاوطنية ، فثمة من يقول بشكل علني ودون مواربة بانه سيقاتل بلده اذا وقعت الحرب مع بلد مجاور ، او انه يدين بالولاء لبلد اخر ، ولا يخجل ان يكون ذيلاً .
متطرفون في الحزن حد الثمالة، نبالغ في احزاننا ، نزور المقابر في الاعياد ، تبذخ في المآتم حد التبذير. والاسراف ، وتنتهي كلمات اغانينا بـ ” معلم على الصدعات گلبي ” وتبتدأ بـ ” آ ياويلي ” .
لكن المفارقة الكبيرة في هذا السلوك الاجتماعي انه غير متجذر وليس لديه ثوابت ، بل يتغير حسب الظروف ، يتأثر بعوامل خارجية ويقوده العقل الجمعي وتسيطر عليه دوامة الاعلام .
فمره يحب و اخرى يكره نفس الاشياء ويقبل ويرفض نفس الحالات ، ويحترم وينبذ نفس الاشخاص، اندفاعات غير مدروسة رأيناها في كثير من الظواهر التي مرت بنا .