قد تكون الفدرالية الهولندية في القرن السادس عشر الميلادي هي اول تجربة في العصر الحديث من هذا النوع في ادارة الحكم إذ تأسست في المدة من 1581-1795ما عرفت بجمهورية السبع الهولندية المنخفضة وهي تسبق تجربة الدولة الفدرالية الاميركية التي قامت لأول مرة بموجب الدستور الاميركي الصادر سنة 1787 م .ولكن تاريخياً لا يمكن ان نغفل الفدرالية المبكرة التي شهدتها بلاد الرافدين في القرن الثامن قبل الميلاد وذلك في عهد الامبراطورية الاشورية التي اعطى النظام السياسي فيها لبلاد بابل كل ما من شأنه ان نسميه اليوم بالفدرالية طالما ان الفدرالية هي شكل من اشكال ادارة الدوله تكون فيها السلطات مقسمة دستورياً بين العاصمة والاقاليم التي لها نظامها الخاص والذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. حدث هذا عندما أعلن الملك الاشوري أسرحدون (680- 669 ق.م ) الوثيقة السياسية بحضور الامراء والنبلاء وقادة الجيش وسفراء وممثلي البلدان الاخرى في العاصمة الاشورية نينوى سنة 772ق.م
وفي هذه الوثيقة (الدستور ) أعلن الملك اسرحدون اسم أبنه أشور بانيبال وريثاً شرعياً للعرش وولياً للعهد فيما عين فيها أبنه الاخر شمش شم أوكن نائباً للملك على بلاد بابل وتم توقيع جميع الامراء على هذه الوثيقة الدستورية التي عثر عليها مكتوبة بالخط المسماري في تنقيبات مدينة كالح (موقع نمرود في الموصل). وبعد وفاة أسرحدون نفذت الدوله الاشورية بنودها واصبح اشور بانيبال (668- 627ق.م ) ملك الامبراطورية فيما تمتعت بلاد بابل بحكمها الفدرالي تحت حكم أخ الملك المدعو شمش شم أوكن وهي خطةذكيه من الاب الناصح لتهدئة بابل وانهاء حالة عدم الاستقرار التي شهدتها البلاد لسنوات عديده.أستمرت التجربة الفدرالية الرافدينية (ان صح التعبير) في ضل هذه الوثيقة الدستورية سبعة عشر عاماً الى أن طمعت بابل بالاستقلال التام فأعلنت العصيان على العاصمة الاشورية نينوى وعمدت سنة 651ق.م الى اغلاق حدودها بوجه السلطة المركزية وأخذت بابل بالتحالف مع الدول المجاورة والاقليمية كالعيلاميين والفينيقيين وبلاد مصر لتقوية نفوذها ، فما كان من الملك اشور بانيبال الا أن يفرض سلطة الدولة بالقوة فزحف بجيوشه الى بابل لأنهاء حالة التمرد حرصاً منه على الفدرالية التي ارساها والده أسرحدون. وقد عثر على نص مسماري يبين تفاصيل رسالة من الملك اشور بانيبال الى شعب بابل جاء فيها:-
حرب الاخوين
((لا تصغوا لأكاذيب أخي العاق ولا تلطخوا اسمكم المجيد الناصع امامي بالعار)) أستمرت حرب الاخوين ثلاث سنوات انتهت بأنهاء عصيان بابل وتخريب المدينة وأنتحار قائد التمرد شمش شم اوكن سنة 648ق.م .لقد لحقت فدرالية بابل وإن كان بطريقة مختلفة تجارب اخرى مارسها الاشوريين في المدن السورية مثلاً وفي مصر التي شهدت حكماً اشورياً مباشراً إبان القرن الثامن والسابع قبل الميلاد ولفترات زمنية تطول وتقصر حسب التطورات السياسية والعسكرية التي شهدتها المنطقة. ويحسب للعراقيين في تلك الحقبة التاريخيه قيامهم باصلاحات ادارية تمثلت بتنظيم المقاطعات والاقاليم وتقسيهما الى وحدات ادارية اصغر يديرها موظف كفوء يرتبط بحاكم المقاطعة فيما أبقوا في بعض الاحيان على الأسر المحلية الحاكمة ومنحها استقلالاً ذاتياً شريطة ولائها للدولة وألتزامها بدفع ما عليها من رسوم وضرائب.تجربة العراق الحديث الان في موضوع الفدراليه هي وريثة كل ذلك التاريخ بأرهاصاته المختلفة الا انها لا زالت تحتاج الى كثير من الايثار ومزيد من الحراك لتنضج ولتعبر عن ارادة شعب واحد يريد ان يعيش بسلام ورفاهيه. تجربة العراق الفدرالي الان يشوبها كثير من الضبابيه والتوتر وقد أخفقت حتى الساعة من ارسال ما ينبغي ان ترسله لتكون مثالاً يحتذى به.
أملنا كبير ان يقوم البرلمان والحكومة الجديده مع حكومة اقليم كردستان بالعمل على تصفير المشاكل وإزالة حقول الألغام التي ساهم بها دستور عقيم كُتب على عجالة في لحظه تاريخية مرتبكة.
{ دكتوراه تاريخ وحضارة