لست ضد التصدي للمحتوى الهابط ، وأن ينال أصحابه أشد العقوبات ، فالأنترنيت نعمة ، ولا يجوز اساءة استخدام هذه النعمة ، فقد وفرت لنا الوقت والجهد والمال ، ولولاها لما حدث انفجار المعلومات الذي أثرى ثقافتنا ، وأطلعنا على كل ما هو جديد ، وجعلنا عاجزين عن الالمام بهذا الكم الهائل من المحتوى الذي لا تعدو نسبة العربي فيه ثلاث بالألف ، ولكن ليس خارج التوقعات أن يغزو المحتوى الهابط هذا الفضاء .
لقد تأخرنا كثيرا في التحوط لما يمكن أن تؤول اليه الأمور في هذا الفضاء بسمواته المفتوحة ، فالناس أجناس ، ولا يمكن أن يكونوا بمستوى واحد من حيث الأخلاق والثقافة والوعي ، لذا ليس غريبا أن يُطل علينا أشخاص بأجساد عارية ، ويستعرضونها بطريقة اغرائية ، ويتفوهون بألفاظ خادشة للحياء ، ولكن قبل هذا وذاك ، نحن من يتحمل مسؤولية كل ما يفعله الهابطون او الذين شغفوا بالهابط من المحتوى ، وأقصد صناع هذا المحتوى وجيوش المتفرجين عليه الذين تفوق أعدادهم متابعي المحتوى الراقي ، لأننا لم نربيهم على كيفية التعامل مع وسائل الاعلام الجديد .
ومع ذلك هل وضعنا معايير محددة للمحتوى الهابط ؟، انه أمر نسبي ، يختلف فيه هذا الشخص عن ذاك ، فما تراه هابطا أراه عاديا ، ثم ان ما يعد هابطا الآن ، قد يكون طبيعيا بعد حين . في فترة السبعينيات كانت الأجهزة الأمنية تطارد الشباب الذكور من أصحاب الشعر الطويل بداعي التخنث ، لكن حاليا لم يعد هذا الأمر مثيرا ، فضفر الشباب الجدائل ، وحلقوا رؤوسهم بطريقة غريبة دون أن يعترضهم أحد ، وعد ذلك من الحريات الشخصية ، ومن بابها لا أستغرب مستقبلا أن تطالب فاتنة بحرية التصرف بجسدها ، لتقول : انه جسدي وليس جسدك .
حماية المجتمع من الانحدار مسؤوليتنا جميعا ، لكن من الضروري تشريع النصوص القانونية لمواكبة الظواهر السلبية التي أفرزتها استخدامات الانترنيت ، لكي لا يمتد التصدي للمحتوى الهابط الى ما هو أبعد من ذلك ، ويتخذ ذريعة لتقييد الحريات ، وتوظيفه سياسيا من جهات ترقص لمثل هذه الامور ( بجفية ) كما يقول مثلنا .
واذا كان المحتوى الهابط يشيع الرذيلة ويفسد الذوق العام وينتهك الآداب العامة ، فان محتوى آخر أشد وطأة على المجتمع ، وكاد أن يمزقه اربا ، وينحدر بالبلاد الى المجهول ، انه المحتوى القاتل الذي مر من أمام جميع رجال الأمن والقضاء على شاشات الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي دون أن يُتخذ اجراء حاسم لحماية مجتمعنا وبلادنا ، هذا المحتوى الذي أشاع الطائفية والتطرف وشيد لها بيوتا وكهوفا ، وما زالت تعج به أصوات سياسيين ورجال دين وأفراد بصريح العبارات ومضمرها في وسائل الاعلام ، لكننا لم نر او نسمع بإلقاء القبض عليهم لبثهم ما يشيع الكراهية بين العراقيين ، او ذاك المحتوى الذي ينشر الخرافة والتفكير الأعوج ، بما يزيد الجهل جهلا ، ويحول دون التفكير الصحيح ، وأبو علي الشيباني نموذجا.
فاذا كنا حريصين على الوطن والناس علينا أن نضع المحتوى القاتل بمقابل المحتوى الهابط ، وذاك الذي يزرع الاحباط في النفوس كاعتراف السياسيين بالفساد والرشى وسرقة المال العام ، وامتلاكهم الملفات التي تقلب الطاولات ، لِمَ لم يجر استدعائهم لنعرف ما في جعبتهم ؟، أليس الاعتراف سيد الأدلة كما يُقال ؟، فمن غير المعقول محاسبة فتاة تستعرض مفاتنها في الانستغرام ، بينما يغض النظر عن سراق قوت الفقراء ، أظن ان المقارنة بين الاثنين جائرة ، وهذا لا يعني التقليل من مخاطر انتهاك الآداب العامة التي لا نعرف لها تعريفا . او النيل ممن تحرك ضميره لمكافحتها ، لكن من يريد مكافحة المحتوى الهابط ، عليه أيضا محاسبة الهابطين القابعين في ظل الأجساد العارية ، ولعل حادثة الفشنستات في ملعب البصرة التي أشار اليها المحافظ أسعد العيداني خير مثال ، فالمحتوى الهابط ما كان له أن يظهر بهذه الجرأة لولا استناده الى هابطين متنفذين يتساوى عندهم الهابط مع القاتل.