سبحان الله! دقيقتان فقط كانتا كافيتين أن تُغيرا أحوال البشر والمكان، وتقلِب موازين الحياة رأسًا على عقِب، وتُثير الزوابع والفواجع والأحزان، وكأن ما حدث هو قيام الساعة برعبها وهوْلها.
حلم سريع مُر، مرّ كشريطٍ عابرٍ في ذاكرة الأحياء تحت ركام المباني، ومعجزات مبهرة صنعها الإنسان متحديًا ما كُنا قرأناه في الكتب عن الساعات التي يمكن أن يصمد فيها الإنسان وهو يواجه الموت بدون طعام أو شراب؛ معجزة الرضيع ذي الشهرين الذي خرج بعد خمسة أيام وهو يمص إبهامه عِوضًا عن أمه التي فارقت الحياة؛ حيث فرق بينه وبينها ذلك الزلزال المرعب المروِّع. ولقد ثبت أن زلزال تركيا “قرمان مرعش” قد حرَّك القشرةَ الأرضية بواقع 7.3 أمتار، وضرب مساحة واسعة من تركيا؛ حيث تُعد أكبر من مساحة العديد من البلدان في العالم، وأحدث بعده أكثر من أربعة آلاف هزة ارتدادية، وتجاوزت حصيلة القتلى في جنوب تركيا وشمال سوريا 43 ألفًا، وشرَّد مئات الآلاف بدون مأوى، وتحوَّلت آلاف المنازل إلى أكوام من الحجارة، وهذا الزلزال ليس هو الأول ولا الأخير!
إن صدمة الزلزال مازالت حاضرة في البشرية بقوة، وسيناريو كل الاحتمالات قائم، وعالم المجهول قُل فيه ما تقول! لقد بدأ الجميع يُفكر في مستقبل الحياة، وما إذا كان من الممكن حدوث الزلزال الذي قد يتسبب بنهاية البشرية. إنه خطر أزلي يُداهمنا على حين غِرَّة، ويمكن أن يُحيل ما بنته البشرية طوال تاريخها الطويل إلى رُكام في ثوانٍ معدودات؛ حيث تتحول الأرض إلى جحيم وشتات.
والتاريخ يُؤرِّخ لنا الكثير من حكايات الفواجع التي ينفطر منها القلب ويدمى، وقد مات الملايين من البشر بسبب الزلازل، وصاروا ذكرياتٍ من الماضي، لكن العلم صار أُميًّا في معرفة حدوثها، بينما تفوَّقت عليه بعض الحيوانات في الموهبة، والقدرات الاستشعارية العالية لتلك الزلازل، وإطلاق النذير الأول المتمثل في الأصوات الغريبة للكلاب والقطط وخروج الماشية والخيول من حظائرها، ومداومة الحمام على الطيران دون الرجوع إلى أبراجه. لكنَّ النمل والثعابين أكثر تلك الحيوانات استشعارًا بالزلازل، فعلى الرغم من كونهما أصمَّيْن؛ لكنهما يستشعران الأصوات والموجات الصادرة من باطن الأرض؛ كالأمواج الكهرومغناطيسية، أو الغازات التي تتصاعد من باطنها. وأقرأوا ما ذكره القرآن العظيم في سورة النمل؛ حيث ذكر قصة النملة مع جيش سليمان، ففي ذلك الكثير من المعاني الرمزية والعِبَر والمواعظ. تاريخ البشرية رواية طويلة، نقرأ فيها فصولاً مُفجعة من الأحزان والانكسارات والهزائم الإنسانية، والحروب والإبادة، وفصولاً مُتخمة بالأفراح والمسرات والأمل والتحديات، وكلها تتناسل في خطوط الطول والعرض. أممٌ تفنى وأخرى تحيا، ولنتذكر أن الفرح والحزن فطريان متضادان في وجدان الإنسان!
والحياة ليست كلها سعادة، ولا كلها شقاء، مآسيها كثيرة واختباراتها لا تقف عند حد. والإنسان هو الصانع الأول للأمل، وقيمته تكمُن فيما يُضيفه إلى الحياة، وفي ذاته وعطاءاته، وإرادته في التشبُّث بالحياة.
ما نتج عن الزلزال التركي ليس سيناريو مرعبًا في أعداد الموتى فحسب؛ وإنما هو قصة رومانسية من الحب والمآثر والشجاعة؛ حيث الإنسانية تنبض بالحياة والمروءة في مواجهة الموت المؤكد، والإصرار على مقاومته بالحب والتضحيات، حيث تكمن قيمة الإنسان وأهميته في إنسانيته وحبه للحياة.
ليست كل نهايات الزلازل مؤلمة، فقد ظهرت معجزات وقصص إنسانية فاقت الخيال والتوقعات، موحدةً المشاعر الإنسانية في العالم، ولقد تآلفت القلوب تضامنًا مع الضحايا والناجين، وأعطت الدروس للبشر؛ حيث يظهر أطفالٌ على قيد الحياة، منهم نحو ستة عشر رضيعًا حيًّا وُجدوا بين الأنقاض، والتقاء أشخاص بأحد أفراد عائلاتهم من بين الصخور المتراكمة، وآباء يسمعون استغاثات أفراد عائلاتهم من تحت الركام، وشاب تركي يحمل قميص خطيبته “زينب” ويبكي في انتظار خروجها حية أو ميتة من تحت الحطام، وانتشال مولودة سورية بدأت دقائق حياتها الأولى وهي مدفونة تحت أطنان من الخرسانة، وُجدت، وهي لاتزال على قيد الحياة متعلقةً بأمها عبر الحبل السري، وهذا مُسنٌّ سوري يطلب الماء للوضوء رغم كونه تحت الركام حتى لا تفوته الصلاة، وذاك مشهد مؤثر آخر لكلب يرفض المغادرة وحيدًا دون صاحبه! ومثلما رأينا مشاهد للإنسان بتفاصيلها الحزينة؛ فإن الزلزال قدَّم أروع دروس في الحياة، فقد تداول ناشطون على التواصل الاجتماعي فيديو يُظهر أبًا لولدين وهو يختصر الحياة فيقول: لقد طردني مالك البيت قبل الزلزال بيومين؛ لأنني لم أستطع دفع إيجار البيت، وبعد أيامٍ من طردي حدث الزلزال. وها نحن، أنا ومالك البيت، نعيش تحت نفس الخيمة! وقد قِيل: من رحم المعاناة يُولد الأمل، ومن قلب المأساة تُولد الإرادة، ويُصنع الحب. وقد علّمنا الطفل الذي خرج مبتسمًا، يُشاكس رجال الإنقاذ بعد 120 ساعة من العيش تحت ركام الزلزال؛ أن الأمل يُولد مع الألـم!
والشافعي يقول: لا تجزع لحادثة الليالي** فما لحوادث الدنيا بقاءُ!