عدتُ البارحة متأخراً من المقهى . أدرت أكرة الباب فلم تستجب . في المحاولة الثانية اكتشفت أن ثلاثاً من أصابع يدي قد قطعت من منابعها . شعرت بحزن عظيم كاد يسقطني ويفتك بي . هاتفت نادل المقهى وسألته عن الأمر ، قال امنحني دقيقة كي أفتش تحت طاولتك وأوافيك . بعد أربع دقائق قلقات أخبرني الفتى الأمين أنه وجد خنصري وبنصري في مرمدة السجائر ، لكنه لم يعثر حتى اللحظة على إصبعي الوسطى .
في اليوم التالي هبطت إلى قاع المدينة نازلاً الجبل مشياً وموزعاً نظراتي الحادة على جانبي الرصيف الطويل وقد سبقني خشمي الذي صار مثل عكازة أعمى ، لكن من دون جدوى تذكر حتى مع الأمل الذي منحتني إياه قطة شرسة كانت تتلمظ بباب برميل القمامة .
بباب المقهى كان جمال زهران ينفث دخان سيجارته بقوة تشبه فوهة عالية ترتقي على مصنع طابوق عتيق . صافحته وهو شمام الواردات والشاردات وسألته ببقيا صبر عزيز عن اصبعي التي فقدتها أمس ، فكان جوابه العبقري بمثابة بعض حل وأشار بإصبع السبابة نحو كناس الشوارع المنهمك في لملمة فوائض ومخلفات الناس .
أخبرني صديقي الكناس الأخضر بأنه سمع البارحة أنيناً مكتوماً خافتاً يخرج من تحت غطاء فتحة مجرى الماء الخفيف ، فذهبت معه إلى المشبك المشكوك به الآن ، لكن الصوت كان قد اختفى تماماً ولا توجد أي إشارة ممكنة تدل على وجود بقايا إصبع هنا .
أكلت درج المقهى بعشرين ثانية وكان على بابها العالي النادل حمادة الحزين الذي لم يمهلني فرصة تأليف سؤال الفقد . زرعت ببطء وخذلان حقيبة كتفي فوق مائدتي الراسخة واستدرت صوب المرحاض علني أجد الفقيد الثمين غارقاً بفم المقعد الفوار أو على مسند المرآة أو تحت انبوب المغسلة وما حولها ، ثم عدت الى طاولتي مخذولاً مثل راية منكسة على أخير الحرب .
لم يبق أمامي سوى مواساة روحي اللائبة واستعمال نعمة النسيان والقبول بالقدر ، وبينما كنت في طريقي الى صنع قناعة كاملة بهذه الخسارة المجلجلة ، ظهر على شاشة التلفزيون مذيع نشرة أخبار المساء ، ومع أول نبأ قصف أذني شعرت ثانية بعظم المصيبة وحاجتي الملحاحة لتلك الإصبع التي كانت نابتة وسط كفي .