يموت موتا بطيئا من لا يُسافر ، بالسفر تنتعش الروح ، ويسترخي المزاج ، ويحلّق الخيال ، وتتجدد الطاقة ، وينبعث الأمل ، ويستيقظ الحماس ، هذا من غير تلك الفوائد التي أورثها لنا الأولون في كلامهم ، فليس بالضرورة أن تضيق بك الدنيا لترى ان أرض الله واسعة ، بل السفر حاجة قد يحول دونها عدم المكنة المالية او غياب الوعي بأهميتها او الانغماس بمشاغل الحياة او البخل ، وهي ملحة للعلماء والفنانين والأدباء ليكتبوا بطريقة الناظرين الى السفح من قمة الجبل ، ووصف الأشياء كما رأتها العين ، لا كما سمعتها الأذن ، واستنباط الحكمة عن يقين ، وليس اطلاق عبارات تشوبها الشكوك والظنون ، ما كان بمقدوري القول : ليس للعراقيين مثيل كرما وشجاعة وغيرة لو لم أر الآخرين من غير أبناء وطني ، ففي السفر اكتشاف لوطنك وأهلك وذاتك ، قبل اكتشاف أوطان الآخرين والتعرف الى شعوبها ، فما أن تستنجد في قلب عواصم الغربة بالقول : أين العراقيون ؟ حتى تجدهم يلتفون حولك كالساتر المرصوص من كل المذاهب والأديان والقوميات ، تقدح عيونهم شررا ، ومحياهم احمرارا ، لهم الاستعداد للتضحية بكل شيء حتى أرواحهم دفاعا عنك ، حدث هذا في أعتم سنوات العراق ، فما بالك عندما يكون البال مرتاحا ، والحال ميسورا ، والمزاج رائقا ، فهل رأيتم مثل هذا عند غيرهم ؟ . هذا ما رواه لي كثيرون ، وفي أكثر من مكان ، تشعر بروحك محلقة في الفضاء عندما تراهم يبادرون لحمل حقائبك الثقيلة لكبر سنك ، او يتكفلون بعراقية أربكتها الحقائب والأطفال . ويسألونك اينما يلتقوك ان كنت بحاجة ، لذا لا تستغرب عندما يُدهش الآخرون بنا . فنحن ليس كغيرنا أبدا .
في السفر يتعزز انتمائك للوطن ، ويزداد حبك للأهل الذي نسميه بالوطنية ، وتوقن ان جميع المظاهر التي خلفت ندوبا في جسدنا كانت سياسية وليس اجتماعية ، والطائفية مثالها الأوضح . وعندما يبلغ عندك اليقين هذا المبلغ ، لن يعجبك بريق الناطحات واغراء السواحل وانارة الشوارع وطلاء الأرصفة ، فسرعان ما يبدأ الحنين بالسريان في الشرايين بالرغم من أيام سفرك المعدودة . كثيرون اولئك الذين يجهلون قيمة الوطن ، لذا علينا تمكينهم من اكتشافه بالسفر .
السفر مدرسة ثرية وان كانت باهظة الثمن ، نتعلم منها الكثير لنطبقه في بيوتنا وأحيائنا ، وكيف يفكر الآخرون ، نريد لمن تعلم أن ينقل التجربة ، ولمن تخلف أن يتحضر ، وللمزاج المتشنج أن يسترخي ، وللثقافة أن تتمثل الجديد من القيم بما يعزز الأصيل الذي نريد له رسوخا ، فنحن مجتمع قيمي ، تضبط سلوكنا وتفكيرنا القيم أكثر من القانون ، فللعادات والأعراف سطوة ، ومنها ما هو بال ، ويُراد له أن يتبدل ، وفي السفر احتمال للتغيير أكثر من طرقنا التقليدية التي تستغرق زمنا قد يطول .
لا يعني السفر الاستمتاع فحسب ، وان كانت الغالبية تنظر له من هذه الوجهة ، و لا ضير في ذلك ، بل يأتي اثراء للثقافة حتى وان كان ذلك بغير قصد ، نستطلع جغرافية البلدان وطرق عيش الناس وثقافة الشعوب وغيرها . لذا يجب أن نفكر جديا بتمكين غير القادرين ماليا على السفر ، بتخصيص قروض للسفر تحديدا وباستقطاع مقبول من الراتب ان كان المسافر موظفا ، وبلا فوائد من المصارف لغير الموظفين ، بالمقابل علينا تفعيل السياحة الخارجية في بلادنا ، فلا تقل فوائدها عن سفر العراقيين للخارج ، والاجتماعي فيها يفوق المالي ، من خلالها تتفاعل الثقافات ، ويتحلحل التشدد في الكثير من الأمور ، بضمنها العادات والتقاليد والأعراف غير المرغوب فيها ، ليروا الوجه الاجتماعي للحرية كممارسة واقعية على الأرض ، لنتخلص من فكرة الوصاية التي انتقلت من الأوصياء الكبار الى بعض الأفراد ، فقيدوا حريتنا وعكروا مزاجنا . اللهم حررنا من الأوصياء كبارهم وصغارهم الذين صادروا حقنا بالتفكير ، وظنوا انهم الصح ونحن الخطأ على الدوام .