(مغنية الحي لا تطرب)، وهم يعاني من آثاره معظم المسؤولين العراقيين، ولاسيما مسؤولو الصف الأول او الذين يجلسون على سدة الحكم، اذا قابلتهم ، في اطار إستضافة مجموعة من زملاء المهنة ، فانهم يغالون بالحديث عن الاعلام العراقي، ويتعهدون بدعمه ويؤكدون ضرورة الارتقاء به الى مصاف وسائل الاعلام الكبرى، سواء في الدول الاجنبية أم العربية. ولم اصادف مسؤولاً عراقياً رفيعا،ً إلا وصدع رأسي بالاشارات والكلام عن أهمية الاعلام ودوره بالارتقاء بالانسان وادامة التنمية وتعزيز الامن الوطني. وكنت اظن ان كلامهم مرآة عقولهم، لكن لا أحد منهم برهن لي، عملياً على سلامة نيته في الدعوة لهذا الارتقاء، ولا في التوقف عند المعالجات التي تقدم حلولاً لمعضلات الاعلام المحلي وتنهض به الى الأمام أو ترفع شأنه ليكون تأثيره عميقاً. انني لا اميل الى الاعتقاد ان الاعلام العراقي ما زال يحبو او انه لم يبلغ درجة النضج والرشد. ولا اتفق مطلقاً مع رأي المسؤولين الذين يتوهمون في ان قولهم بهذا الشأن، يعني تحليهم بالفهم أو استيعاب متطلبات اي اعلام ناجح أو صانع حقيقي للرأي العام، بل غالباً ما رأيت مســؤولين كبــــاراً على درجـــة من (الالمعية) ، لا يقرأون ولا يكتبون ولا يشجعون مكاتبهم على متابعة ما ينشر أو يبث أو يذاع في الاعلام . وهؤلاء يعملون بقاعدة (الباب التي تأتيك منها ريح اغلقها واستريح).اما الباب الخارجي او الاجنبي الذي يأتيهم منه الغل والنقد والتجريح، فانهم يصابون بسببه بالسهر والحمى ، ولذلك فانهم يهادنونه او يجاملون منتسبيه ويقدمون لهم التسهيلات ويحيطونهم بالكلام الجميل، ويسرّبون لهم الاسرار والقرارات قبل نشرها أو ظهورها الى النور في وسائل الاعلام المحلية . ويظن هذا النفر من المسؤولين وقادة الاحزاب ان اظهار الوجه (التنك) لمنتسبي الاعلام المحلي يحفظ لهم السمعة والمكانة ويبعد عنهم رياح الاقتلاع. قال الامام علي بن ابي طالب عليه السلام (زهدك في راغب فيك نقصان حظ، ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس). اقول ذلك وانا اعتب بشدة على رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني وطاقمه الاعلامي، الذي قام قبل أيام بنشر مقالة حصرية في جريدة عربية تصدر في لندن ، ولم يفكر، مثلاً ، بشمول اي جريدة عراقية في الداخل بهذا الامتياز . والمؤسف ان المكتب الاعلامي لدولة الرئيس يقوم باعداد خبر تفصيلي عن المقال، ويبشر الخلق بأهمية محتواه ويفصل ما جاء به، وبذلك فهو لا يقدم خدمة لدولته، وانما يروّج بسذاجة للمطبوع غير العراقي ، الذي يدخل احياناً في تنافس (مشروع) مع المطبوع العراقي، برغم عدم التكافؤ، بسبب حجم التمويل وسعة مصادر التوزيع والتبعية للدولة. واذكر السيد السوداني كذلك، بمقابلته الحصرية مع جريدة المانية لم نسمع بها من قبل، أجريت له خلال زيارته برلين، في وقت لم يتح لجريدة عراقية هذه الفرصة منذ توليه المنصب قبل اشهر. كنت اتمنى لو يستوعب السيد السوداني قول شمس التبريزي لتلميذه جلال الدين الرومي (من اراد من الناس هجرك وجد في ثقب الباب مخرجاً ، ومن اراد ودك ثقب الصخر مدخلاً).
ويؤسفني ان اذكر مثلاً آخر على ذلك، بالمقابلة التي اجريت مع السيد مسعود البارزاني في عدد امس الاحد بمناسبة الذكرى العشرين لسقوط النظام واحتلال العراق. لقد حزنت لان السيد البارزاني لم يخص صحيفة محلية، سواء كانت عربية ام كردية ، بهذه المقابلة ، التي لم تهتم بها وسائل الاعلام الأخرى، لولا ان اعلام كردستان سلط الضوء عليها ونوه الى أبرز المحاور فيها. ومن حقي كصحفي أمضى نحو نصف قرن في هذه المهنة ويحرص على الارتقاء بها في كل الظروف وتحت وطأة جميع التحديات، ان أسأل السيدين السوداني والبارزاني: متى نتخلص من وهم الاعتقاد ان مغنية الحي لا تطرب؟
أوكد يا سادة يا كرام، ان مغنية الاعلام العراقي تطرب جداً، وتمتلك تجربة يعتد بها قد تتفوق على ما سواها. أما رؤى المستشارين الاعلاميين في مراكز القرار في العراق، فتحتاج الى ضبط وتعديل وتأهيل حتى تتخلص من وهم المعتقدات القديمة. انهم لم يمارسوا المهنة أو يشتغلوا في وسائل اعلام أجنبية ، ليكتشفوا حقيقة التميز المهني للصحفي العراقي وعبقرية رؤاه وأفضليته في بلورة المواقف وكشف الاهداف المطلوبة.
ارفعوا معي شعار (مغنية الحي تطرب)، وتعافوا من (الوهم المتأصل)