لم نكن نعلم أن أعمار الزهور قصيرة تذوي قبل الأوان ،، ماتت دكتورة لمياء فبكتها دجلة وبغداد ، وتوقفت العصافير عن التغريد إجلالاً لرحيلها ،، وصمتت حمامة الأيك عن الهديل ، فطار الغراب يمشّط بعينه الباكية عن فسحةٍ بعيدة ليواري سوءة الدولة بعد أن هبّت منها روائح الموت ..
البروفيسورة لمياء ذات الثلاثين ونيف ربيعاً ، شابة واعدة واستاذة العلوم السياسية في جامعة النهرين ، عانت منذ سنتين من مرض السرطان الذي بدأ ينهش بجسمها رويداً رويداً ، ناشدت الدولة في عهد حكومة رئيس الصدفة ( مصطفى مشتت ) ولمدة سنتين مراراً وتكراراً لاجل علاجها خارج العراق فلم يسمع واعيتها مطلقاً ، ولم يسمعها وزير التعليم العالي السابق ، ولم تحرك الجامعة ساكناً وتضغط على الدولة لمعالجتها خارج العراق ..
اتصلت بي شخصيا وشكت لي احوالها وسوء حالتها وهي أم لطفلتين جميلتين ( سليل ٩ سنوات ، رسيل ٦ سنوات ) وأنها تسكن الايجار هي وزوجها وطفلتيها ، وناشدت بإسم الانسانية والشرائع والدساتير والمنابر وبإسم الشهادات العليا وبإسم طفلتيهما الحالمتين ، ورغم مرضها الفتاك كانت مواظبة على الدوام لانها لو أخذت اجازة مرضية ستقطع الجامعة مخصصاتها الجامعية ،،
حاولت أنا شخصياً في العام الماضي إيصال مظلوميتها لكن لم أوفق بسبب البيروقراطية المفرطة .
وفي هذا العام في شباط بادرت للمناشدة وكتبت أنا بتعبيري مناشدة بأسمها بعد أن تكلمت معي هاتفياً وبصوت حزين ويائس ومنهوكة القوى وقالت لي فليأخذوا راتبي وقف مدى الحياة ويعالجوني كي اعيش بين عائلتي وطفلتيّ .
وجهت أنا ثلاثة رسائل بتاريخ ٢٨ / ٢ / ٢٠٢٣ لرئيس الوزراء ووزير الصحة ووزير التعليم العالي علّنا نجد مشكاة أمل لمعالجتها خارج العراق وهذا ماكفله الدستور والقوانين ، فجاء رد مكتب رئيس الوزراء بتاريخ ٧ / ٣ بعبارة لم افهمها ( إجراء المتابعة مع وزارة الصحة ) ، ثم اتصلت بالوزارة التي ابلغتني بأنها ارتأت وضعها في مدينة الطب وعدم اخلائها خارج العراق نظراً لتأخر حالتها فساءت حالتها ، ثم قمت أنا من خلال مكتب النائب الدكتور وليد السهلاني بمناشدة ثانية لرئيس الوزراء ووزير الصحة ( فأن الله يتوفى الانفس حين موتها ) ،، ثم بادرت الى مناشدة العتبة الحسينية في ٩ / ٣ التي استجابت بشكل عاجل جزاهم الله خيرا واتصلوا بي شخصيا ً ، ونقلوها في اليوم الثاني الى كربلاء المقدسة ،
ثم بقت طوال عشرون يوماً تحت المعالجة ؛ حاول خلالها الاطباء بكل امكاناتهم ، فقالوا لي ان الحالة متأخرة ومتفاقمة ..
واليوم أبلغتني الزميلة العزيزة الدكتورة ( زمن ) أنها قد فارقت الحياة ..
نامي يا زميلتي العزيرة فنحن مواطنون دونما وطن ،، مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن ،، نامي يا أم سليل فنحن مسافرون دون أوراق وموتى دونما كفن ،، وكل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن ،، اصبحنا مكسورين مثل عشبة الخريف ، مقتلعون كالاشجار من مكاننا ،، لا أحد يعرفنا في هذه الاجواء ، لا نخلةٌ ،، ولا ناقةٌ ،، ولا وتدٌ ،، ولا حجر ٌ ،، ولا هندَ ولا عفراء ..
هاهو مرض السرطان أيها العراقيون الذي فتكتنا به غربان الشر في ١٩٩١ و٢٠٠٣ سيقضي علينا جميعاً واحداً تلو الاخر ولطالما حذرت منه كثيراً وإنا لله وانا اليه راجعون ..
أنا لستُ من يميز دكتورة لمياء عن غيرها من المصابين بالسرطان ، ولكن الله يقول ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون ) وهنا اتساءل : ومن سخريات القدر أن يكون مصير وحياة عالمة وبروفيسورة ونخلة وقامة عراقية سامقة بيد رئيس حكومة لايملك شهادة الاعدادية ، إنه لشيء عجيب ومضحك ومبكي في آن واحد .. فإلى الله المشتكى وسيطول الوقوف امام الله الجبار ..
هذه الحالة قارنتها مع حالة حصلت مع صديقي ( سلام ) سنة ٢٠٠١ عندما قدم الى الدنمارك واكتشفوا أنه مصاب بالسرطان ، عملت وزارة الصحة الدنماركية المستحيل ، إضطرت أخيراً أن تجلب شقيقه من العراق على حسابها الخاص وبطيارة خاصة من الاردن ومن ثم للدنمارك لاجل زرع خلايا جذعية من نخاعه الشوكي لشيقيقه ، وبالفعل تكللت العملية بالنجاح ، وخيّرت الحكومة الدنماركية شقيق سلام بين البقاء في الدنمارك ومنحه الاقامة او العودة للعراق ، واختار البقاء في الدنمارك خوفاً من بطش النظام آنذاك ..
ولكم المقارنة بين الحالتين أيها القراء الكرام ..
وداعاً من كل قلبي أم سليل .. وداعاً دكتورة لمياء الطيبة النقية حقاً ..
الدكتور
هاتف الركابي