دكتاتورية الصوت العالي لها تجليات في معظم المجالات الحياتية: الإجتماعية والثقافية والدينية والسياسية. ويمارسها من يمتلك أدوات تعبيرٍ أكثر فاعلية وضجيجاً ومواصلة، ويعمل عبرها على مصادرة أصوات الآخرين، وإن كانوا أكثر عدداً ووزناً، وعلى الهيمنة على قرار الجماعة، وإن كانت أغلبيتها ترفضه.
ويتميز صاحب الصوت العالي عن الآخرين من خصومه وأصدقائه، بأنه يوظف ذكاءه ودهاءه لتجيير العقل الجمعي لصالحه، ولمهاجمة الآخرين، وأنه يتقن المنطق الشعبوي، ويسوِّغ لنفسه ممارسات ضد خصومه وأصدقائه، بهدف إضعافهم وإخافتهم وابتزازهم، وهي ممارسات قد لا يفكرون بها هم أو يمارسونها.
وتكمن خطورة صاحب الصوت العالي في قدرته على تحويل الوهم الى حقائق في العقل الجمعي، وهو أسلوب فاعل وسريع في غسل أدمغة الجماعة، فتنقسم الجماعة المنفعلة المتأثرة حينها الى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المؤيدون والأنصار، سواء المقتنعون به أو الإنتهازيون والمخترقون الذي يختبئون تحت مظلته لأسباب مختلفة.
القسم الثاني: المترددون، وهم أصحاب المنطق الرمادي، الذين يعيشون الحيرة بين الإنبهار بصوته العالي وتأثيره، وبين سلوكه الذي ترفضه الأغلبية. هذه الإزدواجية تصب أحياناً في مصلحة صاحب الصوت العالي؛ لأنها تتحول لدى بعض هؤلاء المترددين الى ميول لمصلحته خلال وقائع وأحداث معينة، خاصة إذا كان خصومه لايحسنون استقطاب المترددين. ويُطلق على المترددين ــ عادةً ــ
القسم الثالث: الرافضون المستسلمون، الذين يعتبرون صاحب الصوت العالي قدراً مفروضاً يفوق قدراتهم على المواجهة، وإن كانوا أكثر عدداً وعدّة منه. ولذلك يعملون على اتقاء مخرجات دكتاتوريته، تحت عنوان المصلحة العليا للجماعة.
على المستوى السياسي، فإنّ صاحب الصوت العالي، هو الذي يمتلك وسائل تواصل وإعلام، ومتحدثين مكثرين، وأموال، ومجموعات ناشطة على الأرض، وعناصر نافذة في مفاصل السلطة. وعبر هذه الماكنة الفاعلة المنظّمة يوهم العالم بأنه يمثل الشعب حصراً، وأنه صوت الجماهير ونبض الشارع وضمير الأمة، وأن ما يقوله هو التعبير الوحيد عن رغبات الناس وإرادتهم وتوجهاتهم، وأنه هو الوطن والوطن هو. أما الذين يخالفونه فهم أعداء الشعب والوطن؛ بل هم مجرد أصفار أمام جبروته الشعبية وسموه الوطني. لكن صاحب الصوت العالي هذا يمارس ــ في الواقع ــ أبشع أنواع الدجل والتزييف والدكتاتورية؛ لأنه يصادر أصوات الأغلبية الساحقة من الشعب، وينصِّب نفسه قيِّماً على الناس، ويعمل على سرقة قرار الجماعة والجماهير والوطن، وهو في الحقيقة لا يمتلك من الشارع إلّا جزءاً مما يمتلكه الأخرون، بل عادة ما يكون مرفوضاً من الأغلبية الشعبية الصامتة.
يزداد وجود دكتاتوريات الصوت العالي في أجواء الديمقراطيات المنفلتة، التي تكون فيها سلطات الدولة ضعيفة وتعاني من مسارب الفساد والفشل والشلل، وتكون الطبقة السياسية فيها تعاني من نقاط ضعف ذاتية وموضوعية، في مقدمتها التورط بممارسات الفساد، ما يضطرّها الى مسايرة صاحب الصوت العالي والسكوت على سلوكه، وإن كان فساده أكبر منهم مجتمعين، لأن صوته العالي يغطي على فساده ودكتاتوريته، بينما صوتهم المنخفض المبحوح يجعلهم في فوهة مدفع الشعب.
دكتاتور الصوت العالي يمثل الشعب حصراً !!
يظهر مقدم البرامج على شاشة التلفزيون ويصف رأيه الشخصي بأنه نبض الشعب وأنه يعبر عن رأي الجماهير، ويخرج المتظاهر السلمي أو غير السلمي ويقول: أنا الشعب وأنا أمثل الشعب وشعاراتي ومطاليبي تعبِّر عن إرادة الجماهير، ويخرج حامل المولوتوف وهو يحرق مبنى أو يغلق مدرسة ويقول: باسم الشعب وهذا قرار الشعب وحكم الجماهير، ويطلق الشاعر أبياته، ويقول: أنها قصائد تمثل الشعب وتعبر عن إرادة الجماهير، ويخطب السياسي أو الزعيم ويصف مواقفه وقراراته: أنها قرارات الشعب وأنها تمثل الجماهير وتعبر عن إرادتها.
هنا يظهر أن الشعب الذي يقصده كل واحد من هؤلاء هو الجزء المؤيد له من الشعب، والذي يتفق معه في الرأي. وهو ما تدّعيه أيضاً الجماعات السياسية أو المدنية أو الدينية التي تزعم أنها تتحدث باسم الشعب، وتعبر عن إرادته، وأن مواقفها تمثل الشعب وقراره. في حين أن الشعب، وفق ما يقره القانون الدستوري والقانون الدولي، هو ركن قانوني من الأركان الخمسة للدولة، وهو مجموع سكان البلاد، ممن يحملون صفة المواطنة القانونية، بكل قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم الاجتماعية والفكرية والسياسية متنوعة. أما تعريف الشعب من الناحية السياسية الانتخابية، فهي أغلبية الشعب الذي صوّت في الانتخابات العامة، أي ما لايقل عن نصف المصوتين.
وهنا نطرح بعض الأسئلة الخاصة بالشعب ومفهومه، على الشخصيات والجماعات التي تدّعي تمثيلها للشعب، وذلك في إطار مقاربة قانونية، بعيداً عن أحاديث الفساد والفشل والشلل والخلل، وعن الأحزاب وسلوكياتها، وعن الحكومات وأدائها:
إذا افترضنا أن الشعب يبلغ تعداده (40) مليون مواطن؛ فهل المقصود بالشعب هنا هم الـ (40) مليون مواطن، أو أغلبهم أو جزء منهم؟ أم المقصود بالشعب هو من يتفق مع تلك الجماعة فقط؟، وبأي طريقة عرفت هذه الجماعة إرادة هؤلاء الـ (40) مليون لكي تتحدث باسمهم أو باسم اغلبيتهم؟ وهل لديها تخويل منهم أو من جزء منهم؟ وهل أن الآراء و الشعارات والقرارات التي تطرحها الجماعة تمثل الـ (40) مليون أو أغلبهم أو جزء منهم؟
هل تقصد هذه الشخصية أو الجماعة أن ما ينشر في وسائل التواصل الإجتماعي أو الاتصالات الهاتفية أو التقارير التلفزيونية أو ماتطلقه تظاهراتها من شعارات هي المعبّر الحصري عن آراء وتوجهات ومطاليب (40) مليون؟ فهل أجرت استفتاءات؟ انتخابات؟ حملات تواقيع؟ ماذا فعلت لتمنح نفسها حق تمثيل الشعب وكونها هي الشعب حصراً؟ ولماذا هي بالذات تمثل الشعب؟ لماذا لا يمثله غيرها من الجماعات التي تحمل آراء مشابهة أو آراء متعارضة؟
لنفترض أن لدى كل جماعة أنصار ومؤيدين يبلغون عشرة آلاف أو مائة ألف أو مليون مؤيد، فلماذا أنصار هذه جماعة بعينها هو الشعب وغيرهم من أنصار الجماعات الأخرى ليسوا ضمن الشعب؟ ولماذا مطاليبهم تمثل الشعب ومطاليب غيرهم لا تمثل الشعب؟
وماذا عن الملايين الجالسة في بيوتها وغير الناشطة والصامتة؟ هل هؤلاء خارج دائرة الشعب؟ هل سقطت شروط المواطنية عن هؤلاء لأنهم لم يعلنوا عن آرائهم أو أنهم لم يشاركوا في الفعاليات العامة؟ فهل من حق هؤلاء أن يكون لهم رأي؟ أو أن الرأي خاص بأصحاب الصوت العالي وبمن يشترك في جمهور الجماعات؟ وماذا لو كانت لهذه الملايين آراء تخالف آراء الجماعات الفاعلة؟ فهل يمكن أن نعتبرهم هم الشعب وأن الجماعات خارج إطار الشعب؟
هل من حق أي جماعة مصادرة آراء ملايين الناس؛ بحجة أنهم لم يعبّروا عن آرائهم؟ وهل عملت استفتاءات واحصائيات عن آراء ومطاليب ومواقف الملايين الصامتة؟
هل الشعب هو الكتلة الأكبر؟
لا يوجد بلغة السياسة والقانون التي تفرزها النظريات الديمقراطية؛ مفهوم أو موضوع عنوانه (( الشعب هو الكتلة الأكبر))، لأن الشعب هو كل سكان الدولة، أي أنه ليس كتلة بذاته، أو كتلة في مقابل الكتل؛ بل أن جميع الكتل السياسية تنشأ منه. وليس هناك في الدولة ما يقابل شعب الدولة ليكون الكتلة الأصغر. وبالتالي؛ فهي مقولة غير صحيحة بالمعايير السياسية والقانونية.
أما بلغة الواقع، فإن إدعاء تمثيل الشعب هو ادعاء مستحيل؛ إلّا بالصيغ المتعارفة عقلاً وعرفاً، وإن كان هذا التمثيل نسبياً وناقصاً ومشوهاً، إلّا أنه تمثيل بالحد الأدنى. أما إدّعاء التمثيل واحتكار التمثيل، فلا شرعية له ولا قيمة قانونية وسياسية له.
مثلاً: تبرز جماعة ناشطة في مدينة ما، يجتمع حولها بعض أبناء المدينة، ثم يقفون وسط المدينة أو في مكان عام، ويصرخون: نحن المدينة والمدينة نحن، ونحن نمثل المدينة، ونحن نعبِّر عن إرادة سكان المدينة، وأنّ حاكم المدينة لايمثل المدينة وأن مجلس المدينة المنتخب لايمثل المدينة أيضاً.
وحينها تبث وسائل الإعلام والتواصل أخبارهم بالتأييد أو الرفض. وهنا نتساءل: ماهي حجة هؤلاء بأنهم المدينة وأنهم يمثلون المدينة وسكانها، رغم أن عددهم مع من هتف لهم، لايتجازو (1000) شخص، بينما عدد سكان المدينة مليون شخص؟. ستجيب الجماعة: إن مطاليبنا هي مطاليب سكان المدينة، وأن سكان المدينة يؤيدوننا.
وهنا تبرز أسئلة أكثر واقعية وتفصيلاً: كيف نعرف أن سكان المدينة يؤيدونهم؟ هل جمعوا تواقيع أغلب سكان المدينة بإشراف محايد؟ أو هل انتخبهم أغلب سكان المدينة بطريقة مقبولة ما؟ ومتى حصل ذلك؟ وكيف؟ وأين؟ وهل هناك جهة محايدة أشرفت على انتخابهم؟ فلعل هناك جماعات كثيرة غيرها ترفع مطاليب متشابهة، وقد أيدهم كثير من السكان أيضاً. وهناك جماعات أخرى ترفع مطاليب أخرى. وجميعها تزعم أنها تمثل سكان المدينة. فلم هذه الجماعة بالذات تمثل المدينة وغيرها من الجماعات لاتمثل المدينة؟.
هذا الجدل المبسط؛ يطرح إشكالية عميقة لايمكن حلّها في ظل مبادئ الديمقراطية؛ لأن صيغ الغلبة وفرض الأمر الواقع ودكتاتورية الصوت العالي؛ هي صيغ اندثرت ولا تمت الى مفاهيم الديمقراطية والتحضر والمدنية بصلة.
هناك أمر آخر، وهو أن تقدُّم أي الجماعة لرفع مطاليب عامة ينادي بها أيضاً جزء كبير من الشعب، لايعني أن هذه الجماعة اكتسبت شرعية تمثيل كل الشعب، وأنها باتت تحتكر قرار الشعب، لمجرد أنها نادت بتلك المطاليب، لأنّ هناك جماعات أخرى تنادي بمطاليب متشابهة، بل هناك جماعات أخرى تنادي بمطاليب متعارضة أو غير متشابهة. فمن سيكون له الحق بتمثيل الشعب؟. بل أن هناك ملايين غير المشاركين بحراك هؤلاء وأولائك، ولم يعبروا علناً عن آرائهم سلباً أو إيجاباً؛ فهل هؤلاء ليسوا من الشعب؟ وهل مزاعم تمثيلهم من أي طرف كان، هي مزاعم واقعية وشرعية؟
مثلاً: هناك جماعة من (1000) شخص ترفع شعار إعادة قانون الخدمة الإلزامية، وتقول أن الشعب يؤيدها، وأنها تعبر عن رأي الشعب. وفي الوقت نفسه، هناك جماعة أخرى من (1000) شخص أيضاً ترفع شعار رفض القانون، وتقول أنها تعبر عن ضمير الشعب ورأي الشارع. فما هو المعيار هنا في تمثيل الشعب؟ وبأي رأي ستأخذ الحكومة؟.
هنا الديمقراطية حلّت المشكلة، ووضعت معايير لمن يمثل الشعب، لكي تأخذ الحكومة برأيه، وكان نتاج هذه المعايير هو البرلمان المنتخب من أغلبية الشعب، وهذا البرلمان يصوت هو الآخر بالأغلبية، ما يعني أنه لا حل سوى الأخذ برأي الأغلبية، وإن كانت أغلبية نسبية مفروزة عن أغلبية نسبية.
بالتالي؛ فإن شرعية تمثيل الشعب، تتم من خلال إحدى الصيغ التالية:
الإجماع النسبي الشعبي غير الرسمي: وهي صيغة نادرة وخاصة، تحصل دون إجراء انتخابات أو استفتاء قانوني، وتنحصر مصاديقها في القيادات الروحية والدينية الكبرى، أو قيادات الثورات الشعبية التي يشترك فيها أغلب الشعب.
الإستفتاء الشعبي العام الرسمي: ويتمثل في حصول شخص ما أو جماعة ما على تأييد أغلبية الشعب، أو تأييد أغلبية المشاركين في الإستفتاء، دون وجود منافسين. وهو تمثيل شرعي تام، وإن كان يفتقد الى صيغة التناقس الديمقراطي.
الإنتخاب الرسمي: وهي ترجيح الشعب لشخص أو جماعة ما، مقابل أشخاص آخرين أو جماعات أخرى. ويتم هذا الترجيح عبر صيغ الانتخاب والتنافس المتعارفة ديمقراطياً. ويكون تمثيل هذا الشخص أو تلك الجماعة للشعب تمثيلاً شرعياً، وإن انتخبهم جزء من الشعب وفق القانون النافد.
عليه؛ فإن كون ((الشعب هو الكتلة الأكبر))، وأن جماعة معينة أو حزباً معيناً أو كتلة معينة تزعم تمثيل الشعب؛ إنما هي مقولات غير واقعية. نعم.. يمكن أن تكون الكتلة الأكبر المنتخبة شعبياً هي التي تمثل الجزء الأكبر من الشعب؛ لكنه تمثيل نسبي وناقص؛ لأنه يرتبط بحجم الذين صوتوا لها قياساً بعدد السكان وعدد المصوتين.
مثلاً: الكتلة التي تحصل على مليون صوت من مجموع عدد الأصوات الذي يصل الى عشرة ملايين صوت؛ فإنها لا تمثل سوى 10 % من المصوتين، وإذا كان من يحق لهم التصويت 30 مليون شخص، فهذا يعني أن الكتلة التي حصلت على مليون صوت لاتمثل سوى 3 % من أصوات الشعب، ولا يحق لها الكتلة الإدعاء بأنها تمثل الشعب.