ارتبط اسم المتنبي في كثيرٍ من الاحيان
بالمصلحة الشخصية في مدحهِ او ذمه للامراء والاشخاص، الكثيرُ يُفسِّر علاقة المتنبي مع الشخصيات الموجودة في شعرهِ على أنها علاقة مصلحة تبادلية، فالأمير او الممدوح يريد أن يُخلَّد اسمه ببديع الشعر الذي كان يعدُّ الوسيلة الاعلامية الاولى في الترويج والدعاية، والمتنبي كان يطمح في ولاية كما يقول المتنبي لكافور :
ابا المسكُ هل في الكأس فضلُ أناله
فأنا أغني منذ حين وتشربُ

كان المتنبي صريحاً وواضحاً في طلب الولاية من كافور، حيث أنه لا يتردد في ذكر ذلك في شعره مرةً عن طريق التلميح ( ففي النفسِ حاجاتٌ وفيك فطانةٌ
سكوتي بيانٌ عندها وخطابُ)، ومرة اخرى بشكل صريح. ولكن في التذكير بعلاقة المتنبي مع سيف الدولة سنجد هنالك فروقات مع الاخذ بنظر الاعتبار أن حلم الولاية لم يتفكك، بل ظل مستمراً ولكن كان رديفه هو صناعة المجد، الشرف، القتال ضد الروم، وحاكم عربي في ظل دولة خلافة عباسية اغلب من يحكمون ولاياتها من الفرس والافغان والترك. بالاضافة الى الخلفية الدينية التي تجمع المتنبي مع سيف الدولة حيث أن كليهما علويان، بالاضافة الى حب المتنبي لخولة اخت سيف الدولة، ذلك الحب الذي ظل تلميحاً في الشعر حتى وفاة خولة ورثاء المتنبي البديع لها. معنى ذلك أن المتنبي ليس شاعر مصلحة فقط، بل أنه يحمل ابعاداً انسانية كبيرة في شعره عكس المشهور عنه، صحيح أن شعرهِ مشغولاً بالحماسة والمجد وارفاع قيمة العرب امام العجم -لأن في ذلك العصر احتدت الشعوبية كثيراً بين العرب ومن سواهم- فغلب نزق الشاعر على الابعاد الانسانية والتأملية في مجمل حياته. لا اعتقد أن المتنبي كان يريد حاجةً لو ولاية من فاتك المجنون والي الفيوم الذي مدحه المتنبي بقصيدة مشهورة:
لا خيلَ عندك تهديها ولا مالُ
فليسعد النطقُ إن لم تسعد الحالُ

كذلك بعد فترة من الزمن رثاه عقب وفاته رثاءً انسانياً يليق بمكانة صديق عزيز بنفس شاعر فقال:

إني لأجبنُ من فراق أحبتي
وتحسُّ نفسي بالحمام فأشجعُ

ويزيدني غضبُ الاعادي قسوةً
ويلمُّ بي عتب الصديق فأجزعُ

المتنبي شاعر جدلي بالطبع، حياته صاخبة كأي طامحٍ في هذا التاريخ يحاول قلب الاحداث وتسييرها وفق ما تقتضيه مبادئ القوة والرفعة، وكان المتنبي ردة فعل ازاء الاحداث السياسية التي عصفت بالدولة العباسية إثر تفاقم الحس القومي والنزعات الشعوبية تجاه الاخرين، رافق ذلك ضعف الدولة المركزية في بغداد واستفحال الدويلات او ما يسمى بالاطراف. أثر ذلك كثيراً في الوضع الثقافي والاقتصادي مع صعود حركات تمردية مثل القرامطة، او ثورات مثل ثورة الزنج. انخرط شاعرنا في هذه الصراعات محاولاً اعادة صياغة مجد عربي يراه يأفل امام عينه، فكان يهرب من الواقع الى القصيدة، ومن بغداد التي يدأت تضعف، الى اصقاع الدنيا ليجد به ضيعة او ولاية يحكمها بقوانين العروبة والمجد وقيم البداوة. المتنبي هو العلامة الفارقة الكبرى في الشعرية الكلاسيكية العربية، هو صورة العربي الذي لم يتأثر بالتمدن والحداثة، بقيَ عربياً قحاً يحاول أن يجد حلاً لناقته التي بدأت تشكك من صاحب الصدر الأوسع، البيداء أم ذات المتنبي التي لا تخلو من انتفاخ وتضخم؟

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *