الحلقة السادسة
((الجهاد الأكبر وهجرة العارف الكبرى))

بعد أن اتّضح قياس العقل الاستدلالي إزاء قلب الشاهد، فإنّ هوية الإنسان المتشوّق للشهود تحتاج إلى الجهاد الأكبر لكي تجتاز مفهوم الصادق إلى المصداق عينه، وتتجاوز الذهن إلى الخارج، وتهاجر من الحصول إلى الحضور؛ لأن ما قامت به حتى الآن هو الجهاد الأصغر أو الأوسط، فمحاربة العدو الخارجي الذي يطمح إلى الاستيلاء على الوطن هو جهاد أصغر، ومحاربة العقل والنفس الأمارة التي تتسم بالشهوة والغضب هو جهاد أوسط، ومعركة القلب والعقل، وصراع الحضور والحصول، ودفاع شهود العين أمام فهم الذهن هو جهاد أكبر يؤدي إلى هجرة كبرى.
إنّ “فن الأخلاق” هو جهاد أوسط لتربية المجاهد الذي ينتشل نفسه من براثن الهوى وينقذها من مرديات الأهواء حتى يصل إلى حيّز القسط والعدل الآمن؛ أمّا “فن العرفان” فهو الذي يربّي ـ في مقام الجهاد الأكبر ـ المجاهد الذي يخلّص نفسه من العلم الحصولي، وينتشلها من البرهان العقلي، وينقذها من الحدود المظلمة للمفهوم والضيقة للذهن، ويأخذها الى منطقة شاسعة المساحة مترامية الأطراف، فيتذوق ـ المجاهد ـ طعم الشهود وينتشي بعطر المصداق العيني.
إنّ رسالة المجاهد المنتصر في ميدان الجهاد الأكبر إلى المقهور الذي غلبته الآفاق الضيقة للمفهوم الذهني والاستدلال العقلي هي أنّ العقل يستعمل لفهم الأوليات فقط ليس أكثر، أمّا المواضيع النظرية والمعقدة فلابدّ من مشاهدتها ببصيرة القلب لا فهمها بدليل العقل، ويمكن أن يتطلّع إلى الحقائق مَن فُتحت عيون قلبه، والأعمى من يستعين بعصا الاستدلال وبمساعدة البرهان كما يستعين المكفوف بيديه ورجليه ليفهم بعض خصائص ما يلمسه من دون أن يعلم لونه
وإذا سعى هذا المكفوف إلى النظر، فان النجاح سيكون حليفه لرؤية من أمامه،
(2)زبدة الحقائق، عين القضاة الهمداني: 27 و28، مع التلخيص.
وسوف لن يحتاج بعد ذلك إلى العصا ولا إلى استخدام لمساته للتعرف على الأشياء. وبطبيعة الحال فإنّ المسافة طويلة حتى بلوغ الانتصار في الجهاد الأكبر، وأمام المجاهد سنوات عديدة من الصبر حتى يشمّ رائحة يوسف، ومن لوازم ذلك ذهاب البصر وحلول العمى الظاهري، لكي تتفتح باصرة القلب، وتتحسّس شامة الباطن ويتفجر ينبوع النفس ليجري كوثر الشهود.
روى السيد حيدر الآملي عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) أنّه قال: “خلق الله العقل لأداء حق العبودية، لا لإدراك الربوبية”
فلا يمكن التوصل لمعرفة الله بالدليل العقلي، ومن يحاول ذلك بطريق الحكمة والكلام تشمله الآية الكريمة حسب ما يرى السيد حيدر الآملي: { (ألم ترَ أنّهم في كل وادٍ يهيمون } [الشعراء/225].
ولا يقتصر الكثير من نقده على تشبيه الحكيم بالمتكلم، بل يجعل الاشراقي كالمشائي مشمولاً بالغضب العرفاني، ويرى أنّ كلاً منهما كالمكفوف المتحير الذي يعضّ على إصبع الندم، مصداقاً لخطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) التي أوردها في نقد المتشبهين بالعلماء

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *