كشفت،أذن، الدراسة التي نشرتها مؤخراً مؤسسة غالوب الدولية ونفذتها المجموعة المستقلة للأبحاث،عن تطرف العراقيين في مجال سلوكي آخر يتعلق هذه المرة بالأستعجال في جلب المنفعةللحاضرة-الفورية على حساب المنافع الأستراتيجية الأكبر والأهم. فطبقاً للدراسة التي نشرتُ نتائجها سابقاً فأن العراقيين هم ثاني أكثر شعب في العالم من حيث نزعة التحيزللحاضر،مما يعني أنهم على العموم يفضلون سياسة “أحييني اليوم وموتني باجر” التي تؤدي الى عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع سبق شرحها. أن التطرف في القبول بما في اليد على حساب “ما في الشجرة” يعكس خوفاً كبيراً من المستقبل وعجزاً تاماً عن التحكم به.أنه يعكس في الواقع عجز الفرد والمجتمع عن التحكم بمصيره وتركه للأقدار لكي تحدده هي. فما هي الأسباب التي قد تكون أسهمت في بروز النزعةللحاضرة present bias عند العراقيين وتفضيلهم للذة الرضا بالحاضر”المقبول”على مشقة التعب للوصول للمستقبل “المأمول”؟
في كتابنا “ثقافة التصلب،منظور جديد لفهم المجتمع العراقي”الذي نشرناه أنا وزميلتي (كيلفاند) أستاذة العلوم السلوكية في جامعة ستانفورد أكتشفنا أن الثقافة الأجتماعية في العراق قد تشكلت تاريخياً نتيجة ظروف أمنية وأقتصادية وأجتماعية وسيساسية وديموغرافية شديدة القسوة والتطرف مما أنعكس على طبيعة السلوك العراقي في مختلف مظاهره. ويبدو أن واحده من المظاهر السلوكية المتطرفة التي أسهمت ظروف العراق في تشكيلها هي هذه النزعةللحاضرة-التبريرية التي أشرت لها في المقال السابق. ففي العراق لا تشيع فقط نزعة(عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة) بل تشيع وريما بشكل أكبر نزعة التسويف procrastination سواء في الأنجاز أو المواعيد أو في شؤون الحياة الأخرى. وكم مللنا ونحن صغار من أستخدام أهالينا لكلمة “أن شاء الله” التي كنا نعلم أنهم يريدون منها التسويف وعدم تنفيذ الأشياء التي نريدها منهم. ولازلت أذكر رد فعل محدّثي الأوربي عندما قلت له أول مرة كلمة “أن شاء الله” والتي فهم منها،من خلال تعامله مع عرب آخرين.
تسويف ومماطلة
أن المقصود بها هو التسويف والمماطلة. أن المصابين بالنزعةللحاضرة لا يميلون فقط لتفضيل الحاضر بل لتأجيل المستقبل أيضا لأنهم يشعرون بالعجز تجاهه.أن الظروف القاسية والضاغطة التي شكلت المجتمع العراقي بمختلف أطيافه،عبر التاريخ جعلته في حالة خوف دائم من المستقبل.لذا فهو يحاول أغتنام ما أمكنه من فرص،ولذة،ومتعة آنية حتى لو أدرك أن ذلك قد يكون مضراً أو على الأقل أقل فائدة في المدى الأبعد. فما يهمه الحاضر وليس المستقبل لأنه تعود أن لا يكون المستقبل في صالحه.فالسلوك المجتمعي هو أنعكاس لثقافة أجتماعية تشكلت من خلال تفاعل المجتمع مع بيئته.
أن هذه النزعةللحاضرة المفرطة تقلل من فرص صنع المستقبل لذا لم يكن مستغرباً أن النتائج التي كشفت عنها دراسة كالوب الدولية المشار لها هنا أوضحت أن معظم،أن لم يكن جميع، الدول التي سجلت مستوى أعلى من النزعة للحاضرة هي دول العالم الثالث في حين سجلت الدول المتقدمة مستويات عالية في تفضيل المستقبل وقبول تأجيل متعة الحاضر للحصول على متعة أو فائدة أعلى مستقبلاً. وكان لافتاً في الدراسة أن هذه النزعةللحاضرة تزداد بوضوح بين الأشخاص الأقل دخلاً والأكثر أنكشافاً من الناحية الأقتصادية. كما أظهرت النتائج أن هذه النزعة أكثر شيوعاً لدى الذين لا يتمتعون بمستويات تعليمية جيدة.
فالأقل تعليماً كانوا أكثر ميلاً للتأثر بالنزعةللحاضرة. الخلاصة،فأن الأرقام عادت لتثبت مرة أخرى أن الثقافة والسلوك الأجتماعي للعراقيين قد تأثرت بالظروف التي تشكل في ظلها المجتمع العراقي. وأن هذه الظروف الشديدة والمتطرفة هي التي شكلت كثير من الظواهر الأجتماعية السلوكية.
بالتالي فما لم يتم العمل على تحسين الظروف وتقليل ضغطها على الأفراد والجماعات سيبقى العراق يسجل مستويات عالية من الظواهر السلوكية السلبية.