في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، جلستُ قبالة المخرج الكبير يوسف شاهين رحمه الله.. كانت جلسة احتفالية أظن أن المبدعة خيرية المنصور، أقامتها له في نادي صلاح الدين بمنطقة حي العامل ببغداد …
لم يستجب الحاضرون، وهم قلة، قليلة لمقترح أبداه صديق، كان يشغل موقعاً إعلامياً رفيعاً بأن ينصب الحديث على أمور حياتية عامة، بعيداً عن الفن والفنانين وشجون السينما.. ربما كون اهتمامات هذا الصديق بعيدة عن الفن (السابع)، ولا يفقه حتى برؤية متواضعة لجمالية الفنون، لانغماسه في عمل يومي تغلب عليه الروتينية والرتابة.. وحوّل الجالسون المقترح، إلى دعابة صدقها يوسف شاهين، لم تثر فيه الشكوك، فظل على سجيته، مبتسماً للمفردة العراقية (شكو ما كو) !
والذين زاملوا المخرجة خيرية المنصور، وعايشوها، يلحظون كرهها الشديد للصمت.. فجال صوتها في تلك الجلسة وعلا.. وأخذت تتحدث عن السينما وكأنها مولودة في (بلاتوه) سينما أو إنها رضعت من ثدي فاتن حمامة أو ترعرعت في بيت يوسف وهبي! والحق أقول: كان حديثها ممتعاً، ووجدته يخرج من وجدان مجروح، متألم على واقع السينما العراقية.. كانت تتكلم حتى أني أتصورها تحلم بالسينما، حتى عندما يطبق الوسن على أجفانها.
الويل لمن كان يتهامس، فعيون خيرية تتجول بين الحاضرين، بعضنا كان يصطنع الإصغاء، غير أن الذي لفت نظري، أن الفنان يوسف شاهين كان مشدوداً لحديث تلميذته ولاحظت عنده، تعدد المرات التي غير فيه وضعية ساقيه، فالساق اليمنى كانت تستريح بين لحظة وأخرى على اليسرى والعكس.. سكوته كان أبلغ من الكلام.
وعقب لحظات صمت، قال يوسف شاهين: إن في العراق طاقاتٍ كبيرةً وفيه كم هائل من الفنانين المتميزين (ذكر أسماء عدد منهم)، وفيه استوديوهات وأجهزة جيدة، لكن يعوزه الفهم العالي لأهمية الشروع باستمرارية الإنتاج، وفق رؤية لسينما عراقية جديدة، لها حرية مثل الحرية المدنية.. وقال ضاحكاً: إن الحرية في السينما مثل الحرية المدنية، يتحدث عنها الكثيرون، لكن لا يعرفها، غير القليلين، وأتمنى أن يكون الفنانون العراقيون من هذه القلة!
وأتذكر أنه تحدث كثيراً عن صبره على من خالفه الرأي، من ذوي النصيحة، وتجرعه لمرارة ملاحظاتهم، وعن كيفية تعليمه لنفسه بأن رأيه الشخصي لا يتسع لكل شيء، وأن على السينمائي الملتزم أن يعرف بأن المفهوم الخاطئ، الذي يحمله شريط سينمائي معين، يبقى في ذهن المشاهد، أكثر من مفهوم الصواب.
ما رأي من وفرت لهم الدولة المليارات، وانتجوا أفلاما اصبحت محل تندر في فعاليات بغداد عاصمة للثقافة العربية لعام 2013؟