… استمر لسنين طويلة جريان أنهار الدم في قريتنا من منابع لا تنضب ، من أوردة اجيال يولدون بشراسة وهم يمزقون أرحام أمهاتهم مسرعين لأخذ الثأر، وتكاثرت يوماً بعد آخر شواهد القبور خلف القرية التي نقشوا عليها عبارة ( كل نفس ذائقة الموت…هذا قبر المرحوم… الذي توفي بحادث أطلاق نار غادر بتأريخ / / الخ …. ) حتى اكتسحت حفر المقابر المخيفة مساحات واسعة من أروقة الحقول وروابيها الخضراء ، وهجرت الطيور أوكارها بأسراب منكسة الروؤس تتجه صوب الشرق حيث قمم الجبال المهجورة وسفوحها الجرداء وهي حزينة تلعن فوهات البنادق الهمجية وقساوة الإنسان .
حدث كل ذلك بعد تلك الليلة المشؤمة من ليالي الشتاء الطويلة التي لازم فيها الفلاحون الكادحون كعادتهم مساكنهم بعد ساعات مضنية من العمل الشاق في حقولٍ مترامية الأطراف ، متشابكة الأغصان ، تتدلى منها ثمار طيبة ، لاهبة النضوج ، ساحرة المنظر ، لا اثر فيها لشجرةٍ عاريةٍ او غصنٍ يابس ، تشق أدغالها طرق ضيقة ، متشعبة ، تنحدر جميعها نحو صانع وجودها الازلي ( نهر ديالى الكبير ).
في منتصف تلك الليلة أخذ رعد البنادق وشلالات الرصاص يفترس اجواء قريتنا الصامتـة وراء مناوشات عنيفة بين متحاربين من عشيرتين اتخذوا الادغال اوكاراً لعمليات هجوم و أنسحاب متعاقبة ، اقحم فيها الطرفان كل ما يملكون من رجال وسلاح وعدة ، اتضح فيما بعد انها معركة ثأر اشعل فتيلها شجار بين رجلين اختلفا على تحويل مسار ترعة الماء يحاول كلٌ منهما سقي مزروعاته قبل الآخر حتى تعاظم العراك وانتهى أخيراً الى موت أحدهما برصاصة مسدس كان ثمنها لا يتعدى ثمن برتقالتين فقط.
كانت المعركة شرسة واجواء القرية مشرنقة بنيرانٍ مخيفة ، وطلقات التنوير تبرق فوق أسطح مساكننا كالشهب الخاطفة ونحن مذعورين نقفز رعباً في بيوتنا ونختبئ خلف الحواجز و الجدران ويطمئن بعضنا البعض كلما سكن شلال نيرانهم المرعب .
بعد ساعات من اللوعـة والخوف ، اقتحمت مفارز الجيش المنطقة وبدأت بعمليات مداهمة عنيفة للقبض على العناصر المتحاربة في أدغالٍ تمتد بمحاذاة النهر على مسارٍ ملتوٍ ، وتحتاج عمليات المطاردة تلك الى أعداد كبيرة من قوات الطوارئ معززة بإسناد الطائرات المروحية لتمشيط شريطٍ من الأحراش وسط تضاريس أرضية معقدة مما أرهقت عمليات البحث الواسعة عناصر الأمن الذين ظهرت على وجوههم علامات اليأس و التراجع .
أدى انسحاب مفارز الجيش المفاجئ بعد اليأس من البحث الى قيام مسلحي الطرف الثاني بهجوم مباغت للفتك بنازحي الطرف الخصم الذين نجوا بجلودهم وأحتموا تحت الخيام عند أطراف المزارع رغم برودة الطقس وكثرة الأوحال ، كان الموقف عصيبا” وبعض الجثث تتناثر بين ساحات المخيم وألسنة النيران الزاحفة تلتهم الأجساد والأحراش حتى استحال إنقاذ الأحياء منهم لشراسة النيران ووحشية المهاجمين .
في صباح اليوم التالي أجتمع رجال العوائل المنكوبة وأعدوا العدة لهجوم جديد انتقاما” لضحاياهم ، ودار قتال عنيف تقطعت فيه الشرايين وسفكت دماء ودماء روت بذورا” شيطانية تحولت براعمها الى قنابل موقوتـة تنفجر عند كل ضربة معول لغرس نبتـة فتقطع رأسا” كادحا” آخر وتضيف الى قائمة الأجيال أرملـة معذبة ويتيما” محروما ، وهكذا دواليــــك….