من هم بأعمار تجاوزت الاربعين سنة فأكثر، يتذكرون المذيع الشهير ، بل الاشهر في عالم الاذاعة والتلفزيون … الصوت البهي والوجه الصبوح والشخصية المتمكنة رشدي عبد الصاحب .. لقد مرت ذكرى وفاته الاسبوع الماضي ، وسط سكون مطبق من رفاق دربه الاعلامي الممتد الى عقود طويلة .. ففي يوم (25 نيسان 1994) غادرنا الى دنيا الخلود .. كان لي اخاً لم تلده امي .

29 عاما ، مرت وكأنها لحظات .. آه ابا وسام ، اتعبني فراقك … كنت بلسما في هجير الايام …

لكم اعزائي القراء ، اروي ما حدثني به رشدي عن احدى محطات حياته الوظيفية ، غير المعروفة ، قبل ان يصبح مذيعاً مرموقاً في إذاعة وتلفزيون العراق ذاكراً انه شغل وظيفة إدارية بسيطة في مستشفى الرشاد للأمراض العقلية ” الشماعية ” ببغداد في أوائل ستينيات القرن المنصرم .. ومما رواه في حديثه ، ينطبق على ما نشاهده ونسمعه اليوم من تصرفات لبعض الاصحاء من البشر في مجتمعنا .. تصرفات مرئية ، وغير مرئية تشبه مسرحيات ألاّ معقول .. كيف ؟ قال رشدي : طلب اليّ مدير المستشفى يوماً ، اختيار مجموعة من المرضى ، غير العدوانيين والذين يميلون الى الدعة والانطوائية ، للقيام بعمل بسيط وهو حراثة القسم الخلفي من المستشفى ، وكان ترابياً ، لزراعته ببعض الشتلات … باركتُ فكرة المدير ودعوت بعض المرضى من ذوي المواصفات المطلوبة ، وهيأت لهم ( المساحي) وأدوات الحراثة البسيطة الاخرى .. وبدأ العمل على بركة الله !

ويكمل ” ابو وسام ” روايته : جلسنا انا والمدير في الحديقة الامامية للمستشفى بعد ان شرعنا شبابيك وباب غرفة المدير الى الهواء ، لتغيير جوها .. وأخذنا نتبادل الحديث والشعر ، وكان الرجل محباً للشعر ومن هواته .. وبعد حوالي نصف ساعة او اكثر على بدء المرضى لعملهم ، الذي كنا نعتقد انه سيسهم في تغيير نفسياتهم ، رن الهاتف الخاص في غرفة المدير ، فنهض للرد عليه ، واذا به يأتيني مسرعا ، عالي الصوت ، مكفهر الوجه ، زائغ العينين ( رشدي .. اسرع ، لقد دخل المرضى غرفتي وانهالوا على طاولتي بالضرب بمساحيهم ، ورموا قناني الاحبار بألوانها الثلاثة (الازرق والاخضر والاحمر) على سجادة الغرفة وعلى أرائك الجلوس ورشوا عليها الماء ، ورموا ما موجود في الثلاجة على الأرض وكسروا إطار الشهادات والصور المعلقة على الجدران .. و.. و..) .. هرعتُ الى غرفة المدير ، فوجدتُ المرضى في عز فرحهم داخل الغرفة ، وكانوا يغنون بصوت خفيض، لكنه مسموع نوعاً ما ( دكتور ، جرح الأولي عوفه .. وجرح الجديد عيونك أتشوفه ) وهي أغنية كانت مشهورة في وقتها للمطرب عبد الجبار الدراجي ، وعندما رأوني وقد تبعني المدير ، توقفوا عن ” فعالياتهم ” واصطفوا بشكل نظامي وكأنهم طلاباً جاءهم المدرس .. ضحك المدير على مضض وقال : شكراً يا جماعة!

رحمك الله العزيز رشدي عبد الصاحب.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *