مع انه اجراء معمول به في العديد من دول العالم ، لكني لست مقتنعا به على وجه الاطلاق ، لاسيما في بلداننا ، وأقصد بلدان العالم الثالث او البلدان النامية او قل البلدان المتخلفة ، ففي مثل هذه الدول قد لا يصلح العمل بالمنصب السياسي ، فما ان تعترض على أحدهم بأنه غير متخصص بمجال الوزارة التي يعتلى قمة هرمها ، حتى يقول لك المستفيدون : انه منصب سياسي وليس بالضرورة أن يكون المعني خبيرا في تخصصها ، او قضى فيها جل عمره الوظيفي ، او أن تكون له انجازات ملموسة في التخصص ، لديه ما يكفي من المستشارين للاستنارة بآرائهم وهم من الخبراء والعارفين بشؤون الوزارة ، وما هي في نظري الا ذريعة يُراد بها تمرير غايات خاصة .
مشكلة بعض تجاربنا السياسية ان القائمين عليها يظنون ان ما هو ناجح في الدول المتقدمة ، يمكن أن يتحقق نجاحه أيضا في الدول التي قدر لهم ادارتها دون أن يضعوا بحسبانهم اختلاف خصائص المجتمعات وطبيعة ثقافتها ومستوى تقدمها الحضاري ، وما هي الا سنوات حتى تمنى التجربة بالذريع من الفشل ، فتتراكم خساراتها وتتعاظم انهياراتها ، وقد تنحرف مسيرتها الى ما لا يخطر على بال ، والضحية في الأول والآخر هي الشعوب فقرا وهوانا وويلات وحسرات ونكبات .
لا يعدو المنصب السياسي لدينا سوى مكافأة لأشخاص ناضلوا سياسيا في أحزابهم وتياراتهم ، ليجنوا منها وجاهة وسلطة ومالا ، مقابل أن يظلوا أداة طيعة بيد من وضعهم في هذا الموقع يعملون لحسابه ويغلبّونه على المصالح الوطنية في كثير من الأحيان ، فضلا عن بقاء أصابع تلك الجهات ممسكة بمقاليد الأمور حتى وان ذهبت الشعوب الى الجحيم . لقد أفادت تجاربنا الماضية والراهنة ان النضال لدينا يأتي من أجل الامساك بالسلطة ، والتسلط على الآخرين ، والاستحواذ على المغانم ، وليس تضحية من أجل مشروع له رؤية واضحة ومدروسة للارتقاء بالواقع ، وانتشال الشعوب من الوحل الذي تكابده .
لازلت مؤمنا ان اتباع السياق العسكري باعتلاء المناصب للضابط الأقدم والأعلى رتبة هو الاجراء السليم الذي لا يُختلف عليه ، ولم يحدث أن تسلم شخص قيادة وحدة عسكرية من خارج التخصص باستثناء اجراء المنصب السياسي بالنسبة لوزراء الدفاع ، لكني فوجئت في وقت متأخر ، اذ روى لي بعض المعارف ولست متأكدا من ذلك تماما : أن بعض وحداتنا العسكرية يقودها من هو أدنى رتبة من الأعلى والأقدم ، ويضطر الأعلى الى أداء التحية ، وتلقى الأوامر ممن هو أدنى منه ، وهذه كارثة تهز القناعات وتحبط المعنويات وتفتت القطعات ، ولنا تجربة سابقة مريرة في الحرس الجمهوري الذي أوكلت قيادته لقصي نجل رئيس النظام السابق .
غياب السياقات الواضحة وانعدام التقاليد المهنية أتاحت الفرصة لاعتلاء أشخاص لمناصب غير متخصصين بها ، وسياقنا لشغل المواقع القيادية قيام الجهات العليا بالطلب من الدنيا ترشيح ثلاثة أشخاص لمنصب معين في دائرة تتبع لها ، ويجري الاختيار في كثير من الأحيان بالقفز على القدم والانجاز ، مع ان القدم يعني الخبرة ، والانجاز يعني الابداع والمواكبة ، ويبرر ذلك أن بعض الأقدمين والمنجزين يفتقرون للمهارات القيادية ، لكن هذا استثناء ومعيار فضفاض ، والاستثناء لا يصلح قاعدة ، ولذلك نلحظ ان المنسوبين غير مقتنعين برؤسائهم ، والرؤساء يتعكزون على غير المهني في تمشية أمور مؤسساتهم ، نعم المؤسسة لا يتوقف عملها ، لكن الجودة تتراجع في الاداء والانتاج .
يمكن للمناصب السياسية أن تكون في رئاسة البرلمان ونائبي الرئيس ، ورئاسة الجمهورية ونوابها ومجلس الاتحاد وما شابه ، لكن ذلك ليس بالضرورة مناسبا في السلطة التنفيذية ومؤسساتها ، فعدم التخصص في اعتلاء الوزارة يعني اتاحة الفرصة للثعالب داخلها لتضليل الوزير وتمرير غير الصحيح وأشياء أخرى ، ما يقود الى اتخاذ قرارات غير رشيدة ، والأمر هنا كمن يجعل من القاضي وزيرا للصحة ، او مهندسا لرئاسة مجلس القضاء . واظن ذلك من بين أسباب التراجع الذي نشهده . أكيد سينبري لي فطاحل السياسة لتسخيف كلامي .