كما يبدو فأن صراع القيم ومصادقيها الاجتماعية، مع التفاهة وتجلياتها مستمر وعلى أشده.. خصوصا بعدما وجدت مصاديق التفاهة، ضالتها في تصدر الواجهة ونجاحها في إستثمار الآليات والوسائل، التي مكنتها من البروز على السطح، ومزاحمة الفضيلة في جميع مجالاتها.
لعل الإحباط ينتاب أنصار القيم ودعاة الأصالة، بعد العجز عن تحجيم دور السفاهة والتغلب عليها، وهذا مما لا سبيل إليه كما يبدو، في ظل الحداثة وأدواتها الشعاراتية واللوجستية_ لكن يمكن النظر لذلك من زاوية اخرى، والتعامل معه كحدث يمكن استثماره إيجابيا، شريطة التمسك بقواعد البعد القيمي، وتحديد مصاديقه الواضحة، مع تحديد واعي للمفاهيم ودقة في تفكيكها.
من هنا صارت محاكاة قول الشافعي، وإدخال بعض المفردات التي تناسب ما نحن بصدده عليه، فيكون قوله المشهور “جزى الله الليالي…على النحو التالي:
جَزَى اللهُ التفاهةَ كُلَّ خَيْرٍ
وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي
وَمَا شُكْرِي لهَا حمْداً وَلَكِن
عرفتُ بها الاصيلَ من اللصيقِ..
بين الحين والآخر تتسبب التفاهة في إثارة زوبعة، تجعل منها علة لإشغال الرأي العام، وتأخذ مساحة من الأخذ والرد بين المؤيدين والمعارضين، وغالبا ما تكون نتائجها متشابهة ومشبوهة الوسائل، والمتمثلة بإسقاط القدوة على المستوى الديني والإجتماعي والثقافي، ولعل الجهل المركب لدى عامة الناس يحول دون معرفتهم بخطورة الأمر.
قبل أيام ظهر أحد الشباب في برنامج تلفزيوني، محاولا ايهام المتابعين بعلاقته بالوسط الشعري والثقافي، وأساء لمفخرة الشعر العربي وقامة الثقافية الوطنية العراقية، الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري، مدعيا هذا “الصبي” أن لقب شاعر العرب الأكبر لم يكن مستحقا وكثيرا على الجواهري، وانه منح هذا اللقلب بناء على علاقات معينة آنذاك، مع بعض الصحف والشخصيات الثقافية.
حقيقة ان تلك التخرصات مما يضحك الثكلى في عز مصابها، والأدهى من ذلك أن الرد على من لا يرى أبعد من طرف أنفه، يعده البعض إعترافا بقدراته وامكاناته الأدبية، والسكوت عليه يمنحه وأمثاله مساحة من التمدد على حساب الأصالة والوعي، فالحيرة في الأمر سيدة الموقف في الحالتين!
بعد تلك الحادثة اثيرت زوبعة أخرى، ضد أحد مراجع الدين في النجف الأشرف، كرد فعل من بعض الجهلة على رأي فقهي، أصدره جوابا على استفتاء قدم إليه، وعلى ما يبدو ان الرأي هذا جاء خلافا لميول بعض من يتبني مواقفه الدينية والدنيوية، حسب ما تمليه عليه العواطف والاهواء.. وعلى إثرها تعرض المرجع الشيخ الفياض لهجمة شرسة، قادها أنصاف المتعلمون، من الذين سمحت لهم اهواءهم، بإصدار الأحكام عن جهالة وراحوا يقيمون سلوك المرجعية الدينية، لما يزيد على نصف قرن من الزمن، ويطلقون الأوصاف والنعوت، التي ما نزل بها من سلطان، في حالة من البذاءة والتهجم وفقدان الضمير، وانعدام تام لشرف الإختلاف في الرأي.
نتيجة لذلك كتب أحد الأدباء، معبرا عن استياءه لما وصل اليه الحال، وبعد التأمل بما تعرض له الجواهري، وما يتعرض له الشيخ الفياض، عددا من الأبيات كحوارية بينهما حيث يقول:
بين الفياض والجواهري.
بينما الفياض يقرأ قوله ولقد مننا
وإذ الندا من هاتف مهلا تأنى
لا تبتئس انت الاشم فها أنا
بلا ذنب نفيت له أدان و به أكنى
ويزعم بن الخيس أن عروبتي
قد شابها خلل فلقد تجنى
وقضيت من عمري سنين مبعدا
عن موطنى وأنا الفريد فلم أثنى
وجاء المنصفون فأكرمومني
بالقاب بها جيل تغنى
وأرباب السفاهة عارضوها
فلا عجب أذا منكم تدنى
فافكار التفاهة حين تسمو
يكون الحر مقبورا تمنى
فسر نحو العلى دون إكتراث
فما ضر الهمام متى وأنى..