يُصادف غداً مرور الذّكرى الثَّانيّة والثّلاثين لرحيل الموسيقار محمد عبد الوهاب (4 مايو1991) وبفضل «أرشيف المجلات» المصور طبقاً للأصل، الذي صنعته مؤسسة صخر لصاحبها الأديب محمد الشَّارخ، عجز الزَّمان عن ضياع المواقف، بسلبها وإيجابها، فهناك مَن ينفي أنّ للظلام السَّابق دوراً في ما فرض على مجتمعاتنا مِن صحوةٍ دينية مُهلكة، حَرمت الموسيقى، نظيرة حفيف الأشجارِ وأغاريد الأطيارِ. عبثت في العقول والأفئدة، إذا حسبنا أنّ في قطع حنجرةٍ مثل حنجرةِ الكروان محمد عبد الوهاب أساساً لصحوتهم، فالشَّر كلّ الشّر، وفق منطقهم، في الموسيقى والغناء، وهذا ما حصل.
بعد ثورة 23 يوليو 1952 بمصر كتب سيد قُطب(اعدم: 1966) مقالةً «مهداةً إلى وزير الدَّولة وضباط القيادة ويقصد قيادة الثَّورة، نُشرت في مجلة «الرِّسالة» المصريَّة، مع أنَّ الإطراء الذي خُص به صاحبها الأديب أحمد حسن الزَّيات(ت: 1968) يجعلنا غير مصدقين أنه شخصياً تبنى المطالبة بإخراس أصوات مصر الشَّهيرة، التي إنْ فاخرت مصر بحضارتها ومدنيتها تأتي بها في مقدمة الدَّلائل.
لقد تبنت مجلة الزَّيات مِن قبل مهاجمة معروف الرُّصافي(ت: 1945) بسلسلة مِن المقالات، والزّيات نفسه هاجمه، بعد وفاته بعشرة أيام، وبابتذال للأسف(الرِّسالة، العدد: 612). كنا أشرنا إليها في مقال نُشر على صفحات الاتحاد الرُّصافي.. تنويره وتكفيره . (16/3/2022). فإذا كان الإخراس هذا مِن حرية الرَّأي، الذي قد يدعي المدافعون عن الزّيات ومجلته، فالحقُّ مع إطلاق أيدي المطاوعة لكسر آلات الموسيقى، وقطع الحناجر!
تيار حزبي
كتب قُطب ونشر الزَّيات: «إنَّ الأصوات الدَّنسة، التي ظلت تنثر على الشعب رجعيتها، خلال ربع قرن مِن الزّمان، هي ذاتها التي تصبها الإذاعة على هذا الشعب صباً، وتُكثر مِن عرض أشرطتها المسجلة، بحجة أنّ الجماهير تحب هذه الأصوات (الرّسالة، الـــــعدد 1003 والمؤرخ: 22/9/1952).
ثم يقرن قُطب أصوات الفنانين بالمخدرات، فيقول: «كما أن هذه الجماهير تحب المخدرات! ولكن واجبنا اليوم حماية هذه الجماهير مِن الأصوات التي تحبها، كما نحميها مِن المخدرات، التي تحبها كذلك» (المصدر نفسه). أما الفنانون المطلوب إخراسهم، فعند قُطب، والتَّيار الإسلامي الحزبي كافة «مخلوقات شائنة بائسة كعبد الوهاب، ومحمد فوزي، وفريد الأطرش، وعبد العزيز محمود، وليلى مراد، ورجاء عبده، وفايدة كامل، وشهرزاد وأمثالهم (المصدر نفسه)، ووصفهم بالطَّابور المترهل!
غير أنَّ ما نفثه قُطب آنذاك، كان أساساً لما كتبه في معالم في الطريق ومهد له أن يكون قطباً في جماعة الإخوان فالكلُّ في منطقه جاهليٌ كافرٌ البراء منه، حتَّى صار له تيارٌ عُرف بـ«القطبيين اتخذته جماعات الإرهاب فِراشاً ودثاراً فكريَّاً، وبتلك الأفكار شُرعت حمامات الدَّم، التفجيرات التي طالت آلاف البشر، فوصل الحال إلى الإفتاء برفع الأهرامات مِن الوجود، لأنها مِن عهود الكفر. كانت مطالبة قُطب هجوماً على العهد الملكي، لأن هؤلاء المراد إخراسهم كانوا مِن ثمرات هذا العهد، بينما اتخذهم قُطب، في مطالبته، شاهداً على فســـــاد ذلك العهد.
استشهد قُطب في بيانه الظَّلاميّ ببيت عليّ بن محمد التُّهاميّ(قُتل: 416هج)، دون أنْ يذكر اســــــــمه، فظن البعض أنَّه مِن شعره: «وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها/ مُتَطَّـــــــلِب في الماءِ جــــــَذوةَ نارِ فإذا قصد أنَّ الفساد بالموسيقى والغـــــــناء طبيــــــعةٌ، فالفـــــــساد بالدِّماءِ والتَّكفيرِ يبدو طبعيةً أيضاً، وأيٌ منهـــــــما أخف وأهون على النَّاس؟!
كان البيت مِن قصيدة رثى بها التَّهامي ولده، ومطلـــــــعها: «حُكمُ المَنـــــــِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري/ ما هَـــــــذِهِ الدُنيا بِدارِ قَرارِ ومنها البيت المشهور: «جاورتُ أعدائي وجاور ربَّه/ شتان بين جواره وجواري»(الصــــَّفديّ، الوافي بالوفيات). يتكرر المنطق نفسه اليوم، ويُفسر أبناء قـــــطب، مِن أهل الصَّحوات، الموسيـــــــقى والغناء تفـــكك وانحلال والعبارة لقطب في مطالبته.