في نهاية حقبة التسعينات وتحديداً عام 1999 صادفتُ شابا سوريا يقاربني بالعمر ، حدث هذا اللقاء اثناء ركوبي في باص لنقل المسافرين كان متوجهاً من دمشق الى بغداد ،فما لبث بقربي حتى بدأ بتقديم الضيافة بمنتهى الادب والذوق الرفيع ،لكني لاحظت عليه واثناء الحديث بطرح اسئلة مريبة ، كونها تحتوي في داخلها على رغبته بمعرفة الطائفة التي انتمي لها والقومية او العشيرة وحتى مكان السكن ، وكما هو معلوم ان المجتمع العراقي قبل الاحتلال عام 2003 كان لا يأبه لهذه الامور بل كنا نعيش بسلام تام ووئام والفة دون ان نعرف طائفة الاشخاص الذين يعيشون من حولنا او الذين نتعامل معهم ، مما دفعني الى طرح السؤول عليه وبقوة عن سبب هذه الاستفسارات ، فأوضح بعد ان شعر بالاطمئنان بعدما اشبع رغباته الفكرية وتلاشت مخاوفه ، بأنهم في سوريا عانوا سابقاً من هذه الارهاصات وانهم كانوا يواجهون في زمن الرئيس الراحل حافظ الاسد ،اكثر مما يعانوه في زمن نجله الذي تولى الحكم بعده .هذا اللقاء غيرَ الكثير من الافكار التي كنت اعتقد بها او التي تم دسها في عقولنا دون ان نعلم وكنا قد صدقناها لسبب او لآخر ، وكنت اعتقد ان الطلبة العرب الذين يدرسون في العراق تتحمل الدولة تكاليف دراستهم واقامتهم وتصرف لهم الرواتب وان قبولهم يكون على حساب الطالب العراقي ،وقد تعززت هذه الافكار في عقولنا عندما كنا نرى الطلبة العرب يلبسون من اغلى الملابس ثمناً واجملها منظراً ، ولم نكن نفكر بالجانب الآخر كون هؤلاء ينتمون لعوائل متمكنة مادياً وقادرة على ارسال ابنائها الى خارج دولهم لتلقي العلم والحصول على شهادة معتبرة لها قيمة حقيقية .فبعد ان طلب مني مرافقته في رحلة الحصول على قبول في الجامعات العراقية ، توجهنا الى وزارة التعليم وهنا حدثت الصدمة ،حيث اكتشفتُ ان الوزارة تستحصل من الطلبة العرب ستة الاف دولار عن كل سنة دراسية ،وكان هذا مبلغ كبير جداً في حينها، فضلاً عن مطالبتهم بمعدلات عالية وهذا عكس عما كان يشاع بأن الدولة هي التي تدفع لهم او تفضلهم على الطالب العراقي. هنا يجب ان نتأمل ان التعليم في العراق كان محط اعجاب ورغبة الطلبة العرب فهم يدفعون مبالغ كبيرة مقابل الحصول على الشهادة لما لها من قيمة علمية حقيقية على اعتبار ان البلاد تمتلك جامعات يشار لها بالبنان واحتلت تصنيفات عالمية مرموقة .وبعد مرور السنوات كان من المفروض ان تكون كفيلة بتطور التعليم ،ولاسيما مع رفع الحصار بعد عام 2003 وحصول العراق على الدعم الدولي الكبير وغير المحدود ،لكم ما حصل هو تراجع التعليم في بلدنا واصبح يتذيل قائمة التصنيفات العالمية. هذا الوضع دفع بالطالب العراقي الى البحث عن البديل في الخارج . ومن مهازل الصدف ان الطالب العراقي ذهب ليبحث عن قبول في دول كسوريا ولبنان التي كان طلبتها يتمنون ويحلمون بالدراسة في الجامعات العراقية . لم تنتهي القصة الى هنا فحسب ،كون جامعات هذه الدول وصلت الى مراكز متقدمة في التصنيفات العلمية والعالمية ،في حين هبط مستوى جامعاتنا الى مستويات مخجلة .فمن المسؤول عن ما حدث للتعليم العراقي هل هو الشعب المغلوب على أمره الذي ارتضى السكوت ام الحكومات المتتالية التي تعاقبت على حكم العراق او الاحزاب التي عاثت بالأرض فساداً؟. ونرى ان المسؤولية تقع على الجميع ،فما كان للشعب ان يسكت عن التقصير في مجال التعليم وما كان من حق الحكومات ان تهمل هذا القطاع المهم ، اما الاحزاب والاشخاص فهم يقومون بواجبهم على اتم وجه في تخريب هذا القطاع المهم من خلال القضاء عليه بشكل كامل وجعله يحبو دون مساعدته في الوقوف على قدميه من جديد .