ثمة أمثال عند سماعها كمن يشرب ماء باردا في يوم قائظ ، لعمق معناها ومتانة صياغتها . وأنا مغرم بالأمثال كغرامي بصوت كوكب الشرق ام كلثوم ، ولا سيما في أغانيها مع الملحن الكبير رياض السنباطي الذي يلحن معنى الكلمة وليس الكلمة على حد تعبير السيدة في واحد من لقاءاتها الصحفية ، فما أن أسمع مقطعا بالصدفة حتى أجد نفسي وقد أمضيت ساعات في سماعها من دون أن أشعر بالوقت ، ففي أغانيها سحر غريب يمس شغاف القلب ، لذلك أستغرب كيف لا تستهوي أغاني السيدة غالبية شبابنا ، او يتذمرون من طول اغنياتها ، بل ويندهشون من سماعنا لها نحن الذين دخلنا في خريف العمر ؟ ، بالتأكيد انه اختلاف في الأذواق وتباين في العصر ، وهذه قصة أخرى يطول الحديث عنها .
ومع ان الأمثال باللغة الفصيحة لا تختلف عن الأمثال باللهجة العامية من حيث متانة سباكتها وأصالة معانيها ، لكني شغوف بالأمثال العامية أكثر ، ولا أعرف بالضبط سببا لذلك ، فشعوري بجمال الأمثال العامية يفوق الفصيحة ، أحسها بشكل مختلف . وكأنها تخاطب وجداني أكثر مما تخاطب عقلي ، بينما هي مبنية على المنطق وليس على العواطف . ومع ذلك تهتز دواخلي راقصة .
غالبية الأمثال لا يُعرف لها تاريخ محدد ، لا ندري متى انطلقت ، او قصتها ودواعيها ، كما لا يُعرف من ألفها او من أطلقها ، فاذا أردت أن تدرس تاريخ الأمثال كما درس ميشيل فوكو تاريخ الجنون مثلا ، فذلك أمر عسير او مستحيل ، وقد يغلب الظن والتأويل أكثر من الحقائق اليقينية على من يرغب باقتحام هذا المجال ، ولذلك ذهب غالبية المهتمين الى جمع الأمثال وتفسير معانيها والحالات التي تضرب فيها ، فلو أردنا على سبيل المثال التعرف الى تاريخ نشوء مثلنا الشعبي الذي يقول ( تسايرة المطي للكيف ) أجلكم الله ، فذلك ضرب من الخيال ، ويراد ( بالتسيارة ) الذهاب الى مكان معين للتعلل والتسلية وقضاء الوقت ، و ( المطي ) هو الحمار ، اما الكيف فهو الفرح كالأعراس او الأماكن التي تقام فيها حفلات الغناء والرقص وغيرها . ويضرب على الشخص الذي يدخل مجالا لا يفهم منه شيئا ، فتخيلوا ماذا يفعل الحمار بحضوره الى حفلة ، ما الذي يفهمه منها ، وما جدوى وجوده بين المحتفلين ؟، ولكم تحديد الحالات الواقعية التي يضرب فيها هذا المثل ، وأعفوني من هذه المهمة ، فأحيانا يأخذني الحماس أكثر من اللازم ، وأخشى من نفسي .
ليس جميع الشعوب مؤهلة لصناعة الأمثال ، فهي حصيلة تجارب تاريخية ، والتي لا تملك تاريخا ليس بمقدورها صوغ أمثال تمتاز بعمرها الطويل ، وتجاوزها للأزمنة والأمكنة ، ذلك ان عراقة الأمثال وأصالتها تجردها من سياقاتها المكانية والزمانية ، ما يجعلها صالحة لكل البشرية ، فلم نسمع يوما بمثل عميق من المجتمعات حديثة التكوين ، كعمق الأمثلة الصينية او العراقية او المصرية ، كم هم جميل المثل الصينية الذي ورد في ( تايتل ) مسلسل ( حافات المياه ) الذي يقول ( لا تحتقر الأفعى لأنها بلا قرون ) ، او المثل المصري ( شياخذ الريح من البلاط ) ، او العراقي ( ودع البزون شحمه ) . لا يمكن مقارنة مجتمع يمتد تاريخه لسبعة آلاف سنة بآخر عمره ثلاثمائة سنة .
التجارب التاريخية مراجل تتفاعل فيها جميع عناصر الثقافة ، والحصيلة أمثال عميقة شذبها الزمن لغويا ، ليكون لفظها كاسيا لمعناها من دون زيادة ، وبهذا تشبه لغة الأمثال اللهجة العامية من حيث ان كلماتها على قدر معانيها ، ليس فيها انشاء او جمل فضفاضة . صناعة الأمثال ابداع نوعي لافت ، وأول ميزات هذا الابداع التكثيف على مستوى المعنى واللفظ ، يختصر لك الكثير من الكلام الذي يجب قوله في حالة معينة ، وقد قالت العرب قديما ( خير الكلام ما قل ودل ) وأكثر النصوص التي ينطبق عليها هذا القول هي الأمثال .