مبارك للصابئة المندائيين زهو صباغتهم.. مبارك لهم بياض ردائهم ونهر مائهم الذي يأتون إليه في كل مناسبة بلهفة متجددة. مبارك لهم محبتهم للحي القائمة في نفوسهم تمدهم إيمانا موصولا بسومر ويعبر بابل بالرافدين وكارون فيشهد على تلك الأصالة، وعلى محبة الله لهم ليظلوا شاهدين.
وما عافوا رغم أن الزمن جار.. وما باعوا رغم تشتتهم اليوم في الأمصار. جديدون تماما على بلاد الغربة فلم يعرفوا غير العراق وطن باق في نفوسهم أينما حلوا. وما أن لملموا ظروفهم حين صار الكثير منهم خارجه، حتى تحركت مجساتهم نحو الماء الحي.. نحو النهر والشريعة المناسبة لإقامة الرسم الأعز والطقس الأنقى والأطهر. يصطبغون بصبغة الله الحية الشفافة.. فتتطهر النفس والبدن ويثبت الدعاء والإيمان.
صاروا مثار إنبهار من يشاهدهم من أبناء البلدان ويسألون باستغراب، فيكون الجواب الأسرع للتعريف:
هذه صباغة يوحنا المعمدان للسيد المسيح، فتقفز الصورة المحفوظة لهذا الطقس في أذهانهم ليصيح البعض كل بلغته:
Oh mon Dieu, Herregud, Oh mein Gott, O my God
يا إلاهي، والبعض تفيض دموعه مشاعر فرح وإنبهار ويبدأ بالكثير من السؤال والإستفسار. أربع مناسبات في العام غير أيام الآحاد يتكرر نزول المندائيين الى الماء بالرداء الأبيض وبالنفس المهيئة التي تأتيه لتشهد: (أنني جئتك يا ماء بإرادتي مرتديا رداء النور ومكللا بإكليل الآس البهيج، أصطبغ وأنال الرسم الطاهر فيثبت عليّ ويقويني وتتقوم نفسي بصباغتي باسم الحي العظيم الذي يظل اسمه يحرسني).
رسم اول
ويتباركون بعهد محبة وبمسحة زيت السمسم على الجبين بيد رجل الدين الصابغ وبالقراءات الإيمانية التي ظلت نفسها منذ آلاف السنين وكأن الزمن عندهم قد توقف، فلم يتغير الإيمان ولا الرسم الأول الذي كان.
وحيث عايشت كل الصباغات في وطني، وحيث صرت اليوم خارجه، راقبت الصابئة المندائيين على إمتداد رقعة تشتتهم، تألمت لمآل التشتت كثيرا وما يضمر في قادم السنين، إلاّ أن ما جبر خاطري هو هذا الحرص القادم إلى النهر كلٌّ في بلد، بل كلٌّ في مدن ضمن البلد، فكفكفت دمعتي ومسحتها بمنظر الماء الصابغ لتنتقل عيني عبر الصور من البصرة ومنها إلى الأهواز في إيران ثم تعود إلى الناصرية وتمر بالعمارة فالديوانية وتتوقف طويلا في بغداد العزيزة وتصل إلى كركوك فأربيل، بعدها تمر بالأردن فألمانيا وهولندا والسويد شمالا وجنوبا وفرنسا والنرويج وتعبر المحيطات حتى أمريكا بولايات وكندا، وهناك بعيدا في أستراليا أيضا. وأحس أنني إصطبغت معهم جميعا لكني فضّلت الرافدين لأنهما الأصل الأطهر.
ياه أيها الماء الذي نحن صنوك، شكرا لأنك لا تغير خواصك ولا ترفض من ينزل إليك لينال الطهارة ثم يقف على ضفتيك متعبدا مؤمنا بالحي وليشهد له أنك علامة الحياة الإعجازية.
نشكرك لأنك مازلت تجمعنا رغم تشتتنا، ونعاهدك أننا نبقى نردد النص نفسه في ختام صباغتنا: (أيهــــــا الماء الجاري الذي اصطبغنا فيه ستظل شاهدنا أننا لا ننفك عن رسمنا، ولا نبدل كلمتنا الطاهرة).