السيد الرئيس؛ هو عنوان لروايةٍ مثيرةٍ من أمريكا اللاتينية؛ قرأتها قبل أكثر من عشرين سنة مضت، وكاتبها هو “ميغل استور ياس” الذي يفضح من خلال أحداثها الدامية بطش الأنظمة القمعية الحاكمة في العالم الثالث. وبفضل هذه الرواية الجريئة حاز على جائزة نوبل للآداب عام 1964. لقدْ تعرَّفتُ على هذه الرواية من خلال جلسةٍ مع أدباء وفنانين في حدائق أبو نؤاس في مطلع الحرب مع إيران؛ كنتُ في ذلك الوقت أتمتعُ بإجازتي القصيرة كسائق دبَّابة؛ عائداً من جبهة الشوش. إذْ أخرج تلك الرواية من حقيبتهِ الدبلوماسية الكاتب الراحل حسين الحُسيني رحمهُ الله وعرضها أمام أنظارنا، كما لو أنهُ اصطاد غنيمة ثمينة. تملكتني الدهشة؛ وتساءلتُ في سري: كيف سمحت الرقابة بتداول هكذا رواية بعنوان حرج في ذلك الوقت العصيب؟ حيثُ كان الديكتاتور قدْ هيمن على مفاصل الدولة وأحكم بقبضة من حديدٍ ونارٍ على أنفاس الشعب الذي زجَّهُ شيباً وشباباً في محرقةٍ هائلةٍ اشتعلت على طول الحدود الشرقية من الوطن. ولما سألت حامل الرواية عن كيفية حصوله عليها؟ أخبرني وعلى وجهه ابتسامة وديعة: إنَّها موجودة في المكتبة العالمية. لم أتأخر في شرائها صباح اليوم التالي خشية من نفادها أو منعها على حين غرّة. وقدْ حملتها معي إلى جبهة الحرب بعد انتهاء إجازتي. أكملت قراءتها خلال يومين على ضوء فانوس في ملجئي الرطب. كنتُ خلال المطالعة أرتجف وقدْ غرق قلبي بالرعب من أحداثها الفظيعة؛ والتي كانت نسخة طبق الأصل من العنف الدموي للسلطة الذي كان سائداً حينها في أرجاء البلاد. ولذا حرصتُ ألَّا يقرأها غيري من الجنود خشيةً من عواقب أمنية خطيرة سأقع في شركها. لجأتُ إلى دفنها تحت الأرض بعد حفظها بكيس نايلون. لكن يبدو أنَّ عنوان الرواية كان يشير إلى مالا يحمد عقباه؛ وقدْ استرعى انتباه من كان معي في الملجأ بينما كنتُ مستغرقاً في مطالعة فصولها؛ إذْ لم تمض سوى أيام؛ حتى وجدت نفسي في ملجأٍ محصَّنٍ أخضعُ لاستجوابٍ مخيفٍ من قبل ضابط الاستخبارات العسكرية؛ بوشايةٍ من أحد الجنود المخبرين وما أكثرهم في جبهة الحرب. بعد ساعةٍ مضنيةٍ من التحقيق؛ أمرني الضابط بجلب الرواية وأقسم على إغلاق الموضوع من جذوره. جئتُ بالرواية من تحت الأرض مرغماً؛ لأضعها بين يديهِ صاغراً، ومكثتُ ليالي الجبهة بقلقٍ مريرٍ مع خوفٍ مستمرٍ من قصفٍ عنيفٍ فوق رؤوسنا. من حسن حظي كان ضابط الاستخبارات نبيلاً وبرَّ بوعدهِ؛ حتى كدتُ أنسى أمر الرواية بعد مضي أسابيع على الواقعة. ولما حان دوري بالنزول في إجازة، وإذا بضابط الاستخبارات يستدعيني في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل للمثول أمامهِ؛ دخلتُ مرتبكاً إلى ملجئه المضيء بمصباحٍ يعملُ على مولدة كهرباء صغيرة، طلب مني الجلوس وأهداني سيجارة جعلتْ خفقان قلبي يفتر قليلاً؛ ليقول بنبرةٍ حذرةٍ بعد ذلك:
- هذه رواية خطرة.
استلَّها من تحت فراشه وراح يقلّب بصفحاتها ثم أخبرني بلطفٍ:
- ربما لا تعرف أني خريج كلية الآداب، ولو كان ضابط الاستخبارات غيري، لكان ظهرك متورّماً من جلد السياط الآن؛ قبل ترحيلكَ إلى معتقل لا يعلم به غير الله.
بصوتٍ مختنقٍ نطقتْ:
- سيدي؛ هذه الرواية اشتريتها من مكتبة معروفة في بغداد.
نظر بشفقة إلى وجهي وقال:
- إنها فخ؛ يصلونَ من خلالها إلى الساخطين على السيد الرئيس.
تجمَّد دمي بعروقي؛ وقد صعقني كلامه؛ بينما وضع الرواية بيدي وأمرني:
- تخلَّص منها في إجازتك.
قبل مغادرة موضعهِ المحصَّن سمعتهُ يقول:
- في الحرب؛ يصبح العدو الثاني للسلطة هو المثقف الغامض.
- أنا مثقف مسالم يا سيدي.
أطلق ضحكةً صادحةً في فضاء الملجأ؛ وقال بيقينٍ واضحٍ:
- أنتَ مثقف كارثة؛ هيَّا انصرف.
هذا النقيب النبيل كان اسمه محمد ظاهر عويد من أهالي الموصل؛ ومن المؤلم أنَّ شظيةً لعينةً نحرتْ عنقهِ بعد خوضنا معركة شرسة في قاطع الفاو بعد عامين على تلك الواقعة. لقد تذكرت رواية السيد الرئيس؛ حين رأيتُ تسلل مثقفي الزيتوني في زمن الطاغية إلى المهرجانات الأدبية مرَّةً أخرى؛ وبمعونةِ مريدينَ لهم. جُلَّ ما أخشاهُ أنَّ أحداث رواية السيد الرئيس ستنضج من قبل هؤلاء المرتزقة ثانيةً ومن تحت رمادٍ ينذر بعاصفةٍ من الجمر والدماء؛ وكان الله بعون المثقف الذي يقف ضد الظلم والبطش والفساد وكان الله بعونك يا وطن.