“▪️عندما يخرق الجميع القانون دون أن يحاسبوا،فأعلم أنك في دولة عادلة”
هذه المقولة (التهكمية) درّسها أيانا فيلسوف العراق مدني صالح رحمه الله في مرحلة الدكتوراه،وهي تنطبق تماماً على حال العراق اليوم. أن الدولة بسلطتيها التنفيذية والتشريعية مسؤولة عن أصدار القوانين الواجب تنفيذها من الجميع وبالتساوي بحكم القضاء.لكن حين تستثني الدولة نفسها وحاشيتها من القانون الذي أصدرته هي فتكون حينها مثل شيخ (فنيخر) الذي ثارت القرية على تعسفه وظلمه هو وأبناءه وطالبته بقانون يطبق على الجميع. وافق الشيخ بعد أن لمس أصرار رعيته على سن أي قانون يرتأونه بشرط منحه صلاحية وضع مادة واحدة فقط -كونه الشيخ- في ذلك القانون. وبعد جلسات ماراثونية كالتي جرت في برلماننا العتيد أتفقت القرية على قانون عدّوه مثالياً وعادلاَ ويخلصهم من سطوة (فنيخر). قرأوا القانون أمام (فنيخر) بنفس طريقة (نحباني للو) لتلعثمهم وخوفهم من “الشيخ” ! صفق لهم الشيخ وهنأهم على قانونهم الرائع وطلب ممارسة حقه الذي وعدوه بأضافة مادة واحدة للقانون. فرح (المشرعون) بموافقة الشيخ وصفقوا وهللوا وقدموا الوثيقة الى فنيخر الذي أضاف مادة واحدة فقط في نهاية القانون كما وعدهم. كان نص المادة هو ” يستثنى الشيخ فنيخر وأسرته من أحكام هذا القانون!!
قرائتي أذاً لقانون الموازنة الأتحادية هي قراءة قيمية أجتماعية “فنيخرية”،وليست قراءة أقتصادية. فالموازنة هذه المرة لم تكن أستثنائية فقط في مبلغها الضخم ،ولا في أبواب صرفها،ولا حتى في عجزها غير المسبوق،بل في أستثنائاتها غير المسبوقة أيضاً. لقد أحصيت ورود كلمة “أستثناء” في هذه الموازنة 23 مرة. ولعدم أمكانية أيراد كل تلك الأستثناءات فسأكتفي هنا بأيراد أربعة أستثناءات أعتقدها خطيرة ليس على أقتصاد العراق فحسب بل في مدلولها الذي يتيح لأبي سفيان ما لا يتيح لغيره!
1. أول وأخطر هذه الأستثناءات ما ورد في نص المادة 65 التي أستثنت بجرة قلم هذه الموازنة من أحكام المادة 6 من قانون الأدارة المالية الأتحادية لسنة 2019 والتي تمنع زيادة عجز الموازنة عن 3% من الناتج المحلي الأجمالي. أن قيام الحكومة والبرلمان بخرق القانون هو أمر خطير. أنها سابقة تتيح للحكومة والبرلمان خرق أي قانون من خلال أصدار أستثناءات خاصة بها. فلماذا وضع قانون الأدارة المالية أذا كان يمكن لأي حكومة خرقه من خلال قانون الموازنة كما فعلت هذه الحكومة وبرلمانها؟! هذه السابقة ستفتح الباب أمام كل الحكومات القادمة لتفعل ذات الشيء وبالتالي لا يعود لقانون الأدارة المالية أي معنى.
2. خولت المادة 2 المحافظين أو رؤساء الصناديق غير المرتبطة بوزارة صلاحية التعاقد لغاية 6 مليار دينار،لكل مشروع،وضع خطوط تحت لكل مشروع، أستثناءً من تعليمات تنفيذ العقود الحكومية.بمعنى يمكنهم أختيار أي عرض يقدم لهم بدون مناقصة وعروض وتقييم العروض وسواها. فالمقاول الذي سيقتنع به المحافظ يحيل له مباشرة وبمبالغ قد تصل الى عشرات المليارات أذا تمت تجزئة المقاولة الواحدة الى عدة مشاريع! مرة أخرى أترك للمختصين مناقشة صحة هذا الأستثناء أقتصادياً وأدارياً،لكن ما هي الرسالة التي سيوصلها هذا الأستثناء للعراقيين من الناحية القانونية والأجتماعية. ببساطة أنه يقول لنا بللوا قانونكم وأشربوا ماءه!
3. نصت المادة 2 أيضاً على أستثناء المتجاوزين على التصميم الأساس للمدن من القانون ومنحهم عدادات كهربائية! الرسالة هي:تجاوزوا على القانون وأفرضوا الأمر الواقع وسنجيز لكم ذلك! والرسالة الأخرى التي ترسلها الدولة الى الملتزمين بالقانون،”خلي القانون يفيدكم” !!
4. أما المادة 17 ف3 فهي عجيبة غريبة ومصممة لجماعة شيخ فنيخر حصراً. فقد منحت مجلس الوزراء بناء على مقترح الوزير أو الجهة غير المرتبطة بوزارة صلاحية منح الموظف بدرجة مدير عام ،حتى ولو لم يرأس تشكيل أداري، أو المستشارين في تلك الجهات ممن هم خارج الملاك الوظيفي،أجازة لمدة خمس سنوات براتب أسمي أو أحالتهم للتقاعد أستثناء من قانون التقاعد الموحد لسنة 2014. يعني لم تكتف الحكومة “الموقرة” والبرلمان “العتيد” بالموافقة على تعيين مديرين عامين أو مستشارين خارج الملاك فقط،بل زادت على ذلك بمنحهم أجازة براتب لمدة خمس سنوات يجلسون فيها في بيوتهم ويستمتعون بفلوس العراقيين. أكثر من ذلك فبأمكان مستشار الوزير أو المدير العام ممن عينوا ليوم واحد فقط أن يحصلوا على تقاعد من الدولة!! لاحظوا معي أن نص الفقرة يعطي هذا الأمتياز ل”المدير العام الذي لا يدير تشكيل اداري أو المستشار خارج الملاك”. يعني يمنح الأمتياز للمديرين العامين والمستشارين (الفضائيين) ممن عُينوا أساساً خارج القانون!
حينما تطلب الدولة من مواطنيها والقطاع الخاص ومؤسساتها أحترام القانون فعليها هي أولا أحترام القانون،ليس على طريقة شيخ فنيخر بل على طريقة دستورنا العراقي الذي نص على المساواة بين الجميع وعلى عدم أصدار أي قانون يخالف ما نص عليه الدستور.تحياتي الى شيخ فنيخر وكل من تلعثم أمامه،وصفق له،ونثر الكلمات نثراً وشعراً حباً بهذا الشيخ “العادل”.