لا بد قبل الحديث عن ديوان “محض مزاج” للصديق الشاعر محمد عابد الحديث عن تركيبة الغلاف البصرية والجمالية والقول بأن جمال الظاهر في هذا السياق إنما يعكس جمال الباطن. أن ما يُرى في العتبات والمداخل ما هو إلا مؤشر ودليل على الكامن الخفي من اللآلئ والأسرار التي يزخر بها هذا الديوان الشعري. جمالية الغلاف هي في كثير من الأحيان جزء من جمالية المحتوى أما حينما يتعلق الأمر بديوان شعري تواطأ على تصميم غلافه شاعران أحدهما يرسم بالكلمة والآخر يتجاوزها أحيانا ليعبر بالفرشاة والألوان فإن الامر يصل إلى ذروته من حيث تحقق المبتغى الجمالي. زواج فني بديع بين لوحة فنان نفخ فيها من روحه الشاعرة وبين عنوان ديوان شاعر مسكون روحا وجسدا بالصورة سواء كانت تشكيلية أم سينمائية.
“محض مزاج” عنوان خفيف على اللسان ثقيل في ميزان الشحنات الدلالية والإحالات الرمزية على عالم شعري فسيح وعاج بالكائنات والأمكنة والرموز والوقائع والتاريخ والميثولوجيا.
قصائد محمد عابد من سلالة القصائد التي يجري نبض ايقاعها مع نبض الحياة وتمضي إلى مصبها لا تلتفت ولا تلوي على شيء. قصيدته ابنة شرعية لحياة البسطاء، لأولئك الذين ولدوا على ضفة الأطلسي وأولئك الذين ينزلون خفافا إلى البحر بوجوه لفحتها الرياح والشموس. قصيدة محمد عابد قصيدة بحر بامتياز والشاعر شاعر ماء وموج وامتلاء بالسفر والعشق والحرية والمغامرة. لا شيء أقسى عليه من أن يركن للزوايا المعتمة والأزمنة المتكلسة ولا شيء أحب إلى نفسه من الانعتاق والسفر بعيدا في البحار والمرافئ والمعابر وأنفاق الميترو متصيدا القصيدة المتمنعة المشاكسة. ومثلما تزدحم أعماق مياه اللوكوس بأسرار الميثولوجيا وتنقش على ضفافه صورا من حكاياها ورموزها، يرسم محمد عابد على ضفاف قصيدته أسرار وملامح سفر شعري نحو تخوم أندلس لا زالت تداعب الذاكرة والقلب والوجدان:
تركت ماء لوكوس معانقا ماء الأطلسي / عناق كالذوبان / كحلول صوفي /تركت أبجدية الأساطير / والدماء التي ما زالت تجري / تحت جسور كثيرة.
تركت المليحات الثلاث / على ربوتهن الأثيرة /في خلوتهن يمسحن دمع التفاح الذهبي.
/وجدتني في حي تريانا / أسلم على الأجداد واحدا واحدا / أشاروا إلى الوادي الكبير والخيرالدا /
ولأن الاغتراب والسفر شرطان أساسيان لتشتعل الرؤى وتستكمل القصيدة رحلة عروجها نحو مدارج السطوع والألق والافتتان لا بد من جمرة الحب التي توقد السواكن وتشعل المسافة وتحرك المياه الراكدة:
وحده الحب / يفخخك بفائض الرغبة والدهشة/ وحده الحب يمنحك السفر / سافر بفراسة نبي مطرود من قبيلته/ حارب بفراسة عاشق ولهان/تفتح لك البحار ذراعيها / لعناق الماء/ لماء الحياة.
ولأن الشاعر لا تتنفس قصيدته غير هواء الحرية النقي ولا ينمو ويورق شعره بعيدا عن أنسامها ونفحاتها فإنه يعلن بدون مواربة وفي غير ما موضع من الديوان ضيقه وتبرمه ببعض تجليات البؤس والتكلس التي تطبع واقعنا الفكري والسياسي وتغرقه في مدارات التقليد والمحافظة وتمنعه تارة باسم القيم والأخلاق وتارة باسم وساوس أمنية غبية من أي إمكانية الانطلاق والإبداع والتعبير وتحقيق الذات:
ورائي تركت نباحا كثيرا / كلاب تنبح على كل شيء/ على القصائد تنبح / على كتاب في رف مكتبة/ على نسمة هواء / على جثة متحللة / على بيرة / على شعارات لعمال في مزرعة / على قبلة في فيلم ..
تركت خلفي / الأناشيد الوطنية بأعلام مثقوبة / وأنين الرجال في السجون / تركت خلفي التاريخ يبحث عن الجغرافيا / في الكتب الصفراء / وابن خلدون يبحث عن أصل الدولة / والدولة تبحث عن أصل بن خلدون / وابن رشد يتأمل النار / وهي تلتهم آخر درس في الفلسفة.
تعود بي الذاكرة أربع سنوات إلى الوراء حين كنت بمعية صديقي الشاعر محمد عابد وصديقي الشاعر مزوار الادريسي بمدينة موغير مسقط رأس الشاعر الاسباني الكبير خوان رامون خيمينيث للمشاركة في مهرجانها الشعري السنوي. أتذكر هذه القصيدة (قصيدة في الطريق إلي) وهي تقرأ بترجمتها الاسبانية وبصوت مدير المهرجان الشاعر أنطونيو أوريهويلا. أتذكر كيف كان تفاعل الشعراء والجمهور الاسباني الحاضر رائعا وحماسيا مع مضامين القصيدة وإيقاعاتها ومع الإلقاء الحماسي المبهر للشاعر محمد عابد. أتذكر كيف أن الشاعر محمد عابد كان دائم الاقتناع بأن قصائده لا ينبغي لها أن تظل حبيسة حدائق الهسبيريد، بأن أشرعة نهر لوكوس يجب أن تحملها نحو ضفاف أخرى حيث يبحر الشعر في آفاقه الكونية الرحيبة في منأى عن جدارات اللغة وأسيجتها الجغرافية. كأني بهذا الفتي العرائشي الذي شبهته يوما ما بشعراء التروبادور يتلقف وصية الأم ترينا مركادير ويعاود نفض الغبار عن صفحات مجلة المعتمد لتعود العرائش كما كانت في سابق عهدها ملتقى وبرزخا بين الثقافات ومصبا لأنهار الابداع والفن والابتكار ضدا على إرادة التبخيس والتهميش التي ظلت تحاصر المدينة لعقود وعقود وما تزال. محمد عابد الذي تحتفي عروس البوغاز اليوم بمولوده الشعري لا زال يطارد بعزيمة قصيدته المشاكسة ولا زال في جعبته الكثير من الكلام والكثير من الأحلام والكثير من المشاريع والأفكار من أجل أن يكون غد الشعر أجمل وأبهى وأفضل.